"عوازل أمنية تحمي الآخرين منَّا".. كيف تمضي ساعات الحجر في كفر جعفر؟
كتبت - مها صلاح الدين:
إنفوجرافيك – مايكل عادل:
نزلة برد لدى مغترب يعمل في محافظة أخرى، قلبت قرية كفر جعفر -المتاخمة لمركز بسيون بالغربية- رأسًا على عقب، عاد خلف؛ ليقضي إجازته الدورية مع زوجته، في شقته بمنزل أبيه، وبعد أيامٍ قليلة شفي، وعاد إلى عمله مرة أخرى، لكن المرض انتقل لوالده.
اشتد المرض على الرجل السبعيني، ولم يعد يقوى على التقاط أنفاسه، هرع الأهالي والجيران لزيارة المسن المريض، حاول شباب القرية التصدي لما يحدث، حذروا الأهالي من أنه قد يكون مصابًا بفيروس "كورونا".
اجتاحت القرية حالة من الذعر، وانتشرت شائعات بوفاة الرجل، فخرج أقاربه لنفي الخبر، وأكدوا أن نتيجة تحاليله ظهرت سلبية، فعادت الزيارات للتهنئة من جديد.
ويوم 14 أبريل، أعلنت مديرية الصحة ببسيون، أن الحالة لم تكن نزلة برد، بل إصابة مؤكدة بفيروس "كوفيد 19"!، المعروف بالـ"كورونا"!
من هنا انفرط العقد، وأعلنت محافظة الغربية، تطبيق حجر صحي على 800 منزل -12 ألف شخص- بقرية كفر جعفر، في 19 أبريل الجاري، بعد اكتشاف 12 حالة إصابة إيجابيه في القرية.
ما قبل الحجر..
بدأ "كريم" وغيره من الشباب، في عمليات تعقيم شوارع وبيوت القرية بشكل دوري، وتوعية الأهالي بما حل بقريتهم.
وبعد أن استطاع الشباب إقناع عدد من أهل القرية بعدم الاقتراب من بيوت المصابين، حتى أنهم يغيرون الطريق إذا استلزم الأمر، تجمهر الأهالي حول نائب دائرة بسيون "تامر حبيب" بعد أن أعلن على صفحته الشخصية على الـ"فيس بوك" أنه سيعقم القرية، ويوزع عليهم المطهرات والمنظفات.
وبدأت الإصابات تتزايد واحدًا تلو الآخر، خاصة بعد أن أصبح بهم حلاق، وسائق توك توك، تطوع بنقل المشتبه فيهم إلى مستشفى حميات بسيون.
ليلة الحجر
اجتمع كبار رجال القرية في بيت المال، لاتخاذ قرارات بشأن كيفية توزيع 400 كرتونة سلع غذائية قدمتها مديرية الشؤون الاجتماعية للقرية، و84 حقيبة أخرى مقدمة من جمعية محمد صلاح، لاعب الكرة المصري المحترف في نادي ليفربول الإنجليزي، وابن مركز بسيون بالغربية.
اتفقوا أن يوزعوها ليلًا في اليوم التالي، وانتهى الاجتماع دون التطرق لحصاد القمح الذي حان موعده.
كان هذا هو الشيء نفسه، الذي يفكر فيه "عادل" أحد مزارعي القرية، الذي حان وقت حصاد أرضه: "الأرض دي اتكلفت زراعتها آلاف الجنيهات.. وحاطين آمال كبيرة عليها، في الحجر ده هنعمل إيه؟!".
لم يُبالِ عادل كغيره من أهالي القرية بما يحدث حوله، في البداية بدأ يمزح مع رفاقه في الطرقات كلما تحدث أحدهم عن "كورونا": "كان كل ما حد يقول "كورونا" نهزر ونسلم على بعض"، وحينما انقلب الحال، امتنع عادل وأهالي القرية عن السلام باليد: "بس مبنجبش كمامات والكلام ده.. غالية ومش موجودة في الصيدليات".
أول كردون أمني
بينما خيم الليل على القرية، علم "كريم" بعدما عاد إلى منزله، أن عساكر الأمن المركزي بطنطا، وضعت أول حاجز أمني في مدخل الترعة بأول البلد، ولم تمضِ ساعة واحدة، حتى أحيطت جميع مداخل ومخارج القرية برجال الشرطة والحواجز المعدنية.
تمنت أمينة، الممرضة الشابة أن يستجيب أهالي القرية لقرار الحجر، فمنذ تسجيل إصابة لم يخفِ تواجد الناس في شوارع القرية حتى الآن، رغم تطوعها وغيرها من العاملين بالمهن الطبية؛ لتثقيف وتوعية الأهالي، عبر المكبرات الصوتية في المساجد: "إحنا قرية صغيرة، في قلب بسيون يعني سهل جدًا المرض ينتشر في بسيون كلها".
رفضت "أمينة" العمل ضمن الأطقم الطبية في القرية: "أنا بشتغل في مكان تاني، خوفت إني ممكن أنقل العدوى من هنا لهنا.. فحسيت ضميري مش هيبقى مرتاح".
شم النسيم أول يوم الحجر
للوهلة الأولى، ظن "كريم" أن أهالي القرية استجابوا لفكرة الحظر أخيرًا، الشوارع بدت شبه خالية من المارة، والمحال مغلقة، أغلب أهالي البلدة إجازة رسمية، ومن يحاول الخروج منهم، تمنعه قوات الأمن، فيعود.
كان أغلب أهالي القرية اشتروا مستلزمات شم النسيم من مأكولات وأسماك مملحة قبل أيام من بسيون، وملأ الأطفال سماء القرية بالطائرات الورقية، وأرضها بزينة رمضان أمام البيوت.
لكن الوضع لم يكن بهذا الهدوء في مستشفى بسيون، بالداخل، توافد أقارب المشتبه في إصابتهم على المستشفى، وأصروا على الدخول، والبقاء برفقة أقاربهم، لم يستطع أن يمنعهم الدكتور سعيد*: "إحنا بنحارب علشان نمنع الناس اللي جاية من كفر جعفر يزوروا المصابين".
الأمر الذي جعل فريق المستشفى يمنع الجميع من الدخول، ومن ضمنهم أفراد كانوا مخالطين للحالات الإيجابية، توافدوا على المستشفى من أجل إجراء المسح.
لم يكن ذلك الحال مرضيًا بالنسبة لعمدة القرية، عبدالمجيد البربري: "الصحة سايبانا مش عارفين نعمل إيه.. وسايبة الناس المشتبه فيهم ماشيين في البلد براحتهم ومحدش بيقولهم حاجة؟!".
وفي الوقت الذي شاهد فيه "زياد" المقاول، المزارعين في اتجاههم إلى حقولهم لمتابعة عملية الحصاد، قال عمدة القرية إن رجال الأمن يمنعون الأهالي من دخول الحقول: "إحنا مفيش مشكلة لو أجلنا الحصاد لحد نص رمضان.. بس إحنا عندنا بهايم ودواجن عايزين نشتريلهم غلة.. وعندنا محلات بقالة محتاجة بضايع علشان تكفي الناس".
تحاليل سلبية
وفي منتصف اليوم، غادرت أسرة مكونة من 4 أفراد مستشفى بسيون إلى منزلهم، بعد أن ظهرت نتيجة تحاليلهم سلبية، وعلى عكس ما حدث في السابق، بارك الأهالي عودتهم من دون زيارات أو مصافحة.
وفي الوقت الذي كان أقارب المصابين يوجهون كلمات اللوم، التي قد تصل إلى مشادات كلامية مع شباب القرية، بسبب نشر أخبار الإصابات، معتبرين ذلك عارًا في حقهم، تفاجأ الشباب بنشر أحد المصابين صورة على حسابه الرسمي على موقع "فيس بوك"، من داخل مستشفى العزل بكفر الزيات، ومعه 6 آخرين بين رجال ونساء: "نشرت علشان أطمن الناس إننا كويسين، وبنستجيب للعلاج وبنخف"، يقول عبده.
حيلة جديدة!
علم محمد بأمر إصابة عمه، الذي يسكن معه في البيت نفسه قبل أيام، فاصطحب زوجته وأبناءه ووالدته، وانتقلوا للعيش في منزل أحد الأقارب في مدخل البلد، وفي صباح ثاني أيام الجحر، التقى بعامل آخر، كان غاضبًا بسبب منعه من الخروج إلى العمل في بسيون: "قلت له ولا تزعل نفسك، وعرفته على مخرج صغير متقفلش".
كان "محمد" يواجه الأزمة نفسها، بعد أن ترك العمل الذي كان يقوم به، قبل اندلاع الأزمة: "الناس اللي كنت بشتغل معاهم بدأوا يلمحوا.. فقلت أمشي بكرامتي أحسن".
محمد نجار، ضمن العمالة غير المنتظمة في القرية، وجد نفسه في مهب الريح بين التزاماته وفقدان العمل: "أنا متجوز وعندي ولدين، وداخل جمعية بـ1000 جنيه في الشهر".
في الوقت نفسه، منع "زياد" المقاول، عماله من النزول إلى العمل: "أي حد دلوقتي في بسيون بيعرف إنه العامل ده من كفر جعفر بيرفضه".
وكأن شيئًا لم يكن
في المساء، بدت الأجواء صاخبة داخل القرية، الجميع في الشوارع، وجميع المتاجر مفتوحة، أصبح الحجر الصحي لا يعني أكثر من منع الخروج من القرية، حتى اكتشف جميع الأهالي طريق "الملال"، وهو ممر صغير وسط الزراعات طوله حوالي 500 متر، ينتهي بمركز بسيون.
شاهد "كريم" بعض التجار يخرجون لشراء البضائع، وآخرون خرجوا لصرف المعاش، بسبب عدم وصول ماكينة الصرف المتنقلة: "مقدرش أقولك مش غلطانين لكن معذورين"، الأمر الذي دفع أهالي بسيون لإطلاق الاستغاثات على مواقع التواصل الاجتماعي من انتشار أهالي كفر جعفر بينهم: "كإننا جرب.. خايفين مننا مش خايفين علينا".. يقول كريم.
وقبل نهاية اليوم، تم تسجيل 6 حالات إيجابية جديدة داخل القرية، ورغم ذلك، لا يشعر محمد بالخوف، ورفضت والدته وزوجته التوجه نحو المستشفى لإجراء الفحص، رغم أنهم يسكنون مع حالة من المصابين في بيت واحد: "في الأول كنت متأكد إنه حاجة زي دي عمرها ما هتدخل بلدنا.. وكنت بتريق، لكن مع الوقت بدأت لما تيجي السيرة أحس بوجع في جسمي.. ما بالك بقى لما عرفنا إنه في حالة في نفس البيت.. بس إحنا مش خايفين!".
فيديو قد يعجبك: