"السفينة الأجمل في العالم" وصلت الإسكندرية.. ما حكاية "أميريجو فسبوتشي"؟
السفينة الإيطالية "أميريجو فسبوتشي"
-مارينا ميلاد:
قبل نحو 70 عامًا، أبحرت السفينة الإيطالية "أميريجو فسبوتشي" نحو الإسكندرية، وصَعد على متنها عشرات الطليان بعضهم من عائلة نديم قنواتي، المصري الإيطالي الذي بات الآن مسؤولا عن جاليته بالإسكندرية. وربما كان بينهم جدته، التي حَكت له كثيرًا عن تلك السفينة المذهلة.
والحكايات التي نسجتها له، جعلتها ترسو في مخيلته كسفينة تشبه لسفن الأساطير والحواديت. وظل طوال عمره البالغ 36 عامًا يتمنى أن تظل السفينة العجوز صامدة ويلقاها يومًا.
ولم يصدق عينيه حين قرأ خبر أن "أميريجو فسبوتشي"، أقدم سفينة بالبحرية الإيطالية، ستزور الإسكندرية مرة أخرى هذه الأيام في جولتها التي تطوف فيها بحار العالم.
12 فبراير 2025- لم تبق سوى أميال قليلة، وتصل السفينة إلى ساحل الإسكندرية قادمة من ميناء العقبة، استعد "نديم" لينطلق هو الآخر نحو الميناء، ويصل إلى رصيف 16 (محطة الركاب البحرية) ويكون في استقبالها، ثم كان اللقاء "الذي ظنه مستحيلا ذات يوم".
جاءت السفينة بنفس ملامحها القديمة التي حكتها له جدته ورأها في الصور القديمة، "سفينة شراعية، ذات حبال من ثلاثة صواري رأسية ومزودة بأشرعة مربعة ورافعة".
وما إن رست، حتى صعد مسرعًا على سلالمها الخشبية المهتزة. ومع كل درجة عليها، كان يتخيل أنه "يعود بالزمن، ويخطو نفس خطوات جدته وعائلته الذين سبقوه إليها"، كما يصف.
وكأنها لم تكبر أبدًا، ولم يناهز عمرها الـ100عام، فوجدها "نديم"، كما يحكي: "أنيقة، نظيفة، محتفظة بكل معداتها القديمة كما هي، وليس هناك أي شئ متهالكًا".
في مقدمتها، وقف أمامه تمثالا برونزيا لـ"أميريجو فسبوتشي"، المستكشف والملاح الإيطالي، الذي عاش في القرن الخامس عشر وأخذت السفينة اسمه. يسرح "نديم" في تفاصيلها طويلا، في تلك القناديل القديمة ذات لون الذهبي اللامع والشعار النحاسي ومدافعها وحامل البنادق الخشبي والهلب ذات الحجم الكبير".
وبين أدوارها الثلاثة المقسمة لغرف مواتير وأجهزة وغرف بحارة والسطح، يلف "نديم" ويلتقط الكثير من الصور ثم يقول: "كنت أخدم في البحرية المصرية وصعدت إلى كثير من السفن، ومنها الإيطالية، لكن لم أجد أبدًا مثيلا لهذه السفينة".
فكل ما تظهره السفينة له ولغيره هو نفسه ما ظهر لأول زوارها عند إطلاقها في 22 فبراير 1931، لم يتغير شيئا فيها بعد أن بنيت في حوض بناء السفن الملكي في كاستيلاماري دي ستابيا وقاد فرانشيسكو روتوندي تصميمها.
وحينها، شرعت في أول رحلتها التدريبية عبر شمال أوروبا في يوليو 1931. وظلت مهمتها الأولى هي تدريب طلاب الأكاديمية البحرية الإيطالية. لكنها على مدار الثلاثين عامًا الماضية، عملت أيضًا في مجال حماية البيئة الطبيعية والنظام البيئي البحري، حيث تتعاون مع جمعيات مثل اليونيسف والصندوق العالمي للطبيعة، لـ"نشر الوعي وتوضيح سياسة البحرية تجاه البيئة والحياة البحرية"، وفقا لما يذكره طاقمها.
ويبدو أن "أميريجو فسبوتشي"، وقع على عاتقها مهام إضافية، قد تكون دبلوماسية أحيانًا نتيجة سمعتها التي بلغت كل دول العالم، حتى باتت كأنها "سفارة إيطالية عائمة"، كما توصف على موقعها الإلكتروني، وكما يلاحظ "نديم" من تعامل طاقمها.
فقبل أن تستقر بالإسكندرية، قد مرت في جولات بدأتها في يوليو 2023 على محطات عدة: مارسيليا، وإسبانيا، وريو دي جانيرو، والأرجنتين، ولوس أنجلوس، وطوكيو، وسنغافورة، وكراتشي، والدوحة، وأبو ظبي، وجدة، ثم العقبة.
اختياراتها للدول التي قصدتها يراه زياد مرسي (الباحث والمحاضر في الآثار البحرية) "دوران باتجاه الغرب لتمشي مع الرياح السائدة التي مكنتها من عبور المحيط الأطلنطي والهادي، لأنها تبحر بقوة الأشرعة والمحرك الكهربائي يعمل عند الحاجة إليه، لكن في معظم الوقت تمشي بقوة الرياح".
وقد دفعتها الرياح باتجاه الإسكندرية لتكون محطتها الخامسة والثلاثين. وكانت تلك فرصة لشخص مثل "زياد" ليراها عن قرب بنظرة تختلف عن الباقين. فيقول عنها: "تحفة فنية لفنون وتكنولوجيا الملاحة الشراعية في القرن الـ18، مع إضافات من القرن الـ21 مثل الجي بي إس والمولدات الديزل والموتور الكهربائي".
وبالنسبة لمحافظة الإسكندرية، كانت فرصة أيضًا لإعلان -عبر صفحتها- "وصول السفينة التي تحمل لقب الأجمل في العالم إلى ميناءها".
وفي الميناء، كان ينعكس ضوء الشمس على ظهرها؛ فتلمع أخشابها وحبالها الطويلة.. وبالأسفل، يدخل إليها كثيرون، منهم عائلات متاح لهم زيارتها مجانًا. وعلى الأغلب، شجعهم هذا الطقس المعتدل الذي قلما تشهده الإسكندرية في الموسم الشتوي.
بين هؤلاء، مينا زكي (مالك إحدى شركات التسويق) الذي لم يفكر مرتين وذهب إليها. ورغم اهتمامه بمجال الآثار والتراث السكندري نتيجة دراسته، لم يكن سمع عنها من قبل. فيصف منظرها وهي واقفة بالميناء بأنه "مهيب". ثم راح يتجول ويقول، وهو يقلب نظره فيها: "الأجزاء الداخلية والخرائط والزخارف مُبهرة".
وفي كل أنحائها، كان ينتشر طاقمها ذو البدلات الكحلية المهندمة.. يستقبلون "مينا" والزوار بابتسامات، يلتقطون معهم الصور، ويحدثوهم بإنجليزية ركيكة عن تفاصيل السفينة. فيكمل "مينا" حديثه عن "مهارتهم ومدى انسجام الزائرين معهم".
تلك المشاهد الحاضرة على السفينة بين الإيطالين والمصريين، لم تكن غريبة على "نديم" الذي عاش طوال الوقت "بين هذا المزيج في مدينة متأثرة كثيرًا بالثقافة والمعمار الإيطالي".. الشئ نفسه عبر عنه محافظ الإسكندرية والسفير الإيطالي في حفل لاحق أقامته القنصلية لأجل السفينة، فتحدثا عن: "مدى تقارب الشعبين والتشابه بين الإسكندرية والمدن الإيطالية".
وفي واقع المدينة الجديد، بات غير محدد بدقة عدد الجالية الإيطالية بها، كما يقول "نديم"، خاصة وأن هناك طليان تنازلوا عن جنسياتهم وقت الحرب العالمية الثانية حتى يبقوا في مصر مثل جدته التي رحلت وبقت حكاياتها له، كحكاية هذه السفينة.
وبينما تكتب هذه السطور، تغادر السفينة "أميريجو فسبوتشي" ميناء الإسكندرية، لتستكمل جولتها وتتجه إلى دول أخرى حتى شهر يونيو المقبل، تحت شعارها المستوحى من كلمات ليوناردو دافنشي: "ليس من يبدأ، بل من يثابر".
فيديو قد يعجبك: