لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

حكاية الدكتور "صابر".. من ضياع البصر لـ"بوكيه ورد" من الرئيس

09:22 م الجمعة 08 مايو 2015

دكتور صابر حمد جابر

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-دعاء الفولي:

قلبٌ مفعمٌ بالأحلام، طفل عمره 11 عاما يركض في الأنحاء، يناكف إخوته، يساعد الوالد في الحقل، يناديه المحيطون في قرية إطسا، بمحافظة المنيا، بـ"دكتور صابر"، يقينا منهم أنه سيكون فخر الأسرة المكونة من أب وأم وعشرة أبناء، ظلت أمنية الصغير بأن يصبح طبيبا عصية على التغيير، حتى تراكمت "المياه الزرقاء" على عينيه، كان كبيرا بالقدر الكافي ليدرك أنه لن يرى الضوء ثانية، بينما نور قلبه أبى أن ينطفئ، حينها كان مُقدرا له الحصول على لقب "دكتور" أيضا ولكن في مجال الإعلام. 23 عاما مرت منذ ذهاب بصر "صابر حمد جابر"؛ أولها مثابرة، أوسطها معافرة وآخرها مناقشته رسالة الدكتوراه في الإعلام، كأول كفيف ينالها في مصر والوطن العربي، ثم برقية تهنئة من رئيس الجمهورية، عبد الفتاح السيسي، بنجاحه.

دنيا "جابر" بينما هو صغير كانت القراءة والتعليم، قضى حياته بالقرية قبل الانفتاح على زحام القاهرة، لم يذهب النظر فجأة "فضل يضعف لحد ما راح تمام في خلال تسعة أشهر"، كان في نهاية دراسته بالمرحلة الإعدادية، لم ييأس والده من محاولة العلاج "روحنا أكتر من دكتور في المنيا وفي الآخر روحنا لواحد في القاهرة"؛ أخبره أن الوقت تأخر على إجراء عملية، كان ذلك عام 1992، والعلاج ليس متاحا بشكل كبير خاصة في المحافظات، لذا ما كان من الفتى ذو الستة عشر عاما أن يُسلم أمره للواقع.

"الإعلام كان البديل الأفضل ليا بعد الطب"، رغبته في دخول الكلية الأولى كانت من أجل خدمة المجتمع، ومحاولة التوعية بالأخطاء الطبية التي يقع فيها الكثيرون، لذلك وجد في الإعلام ضالته "لأني مقتنع بدور الإعلام في التوعية ولكن في مجالات أخرى"، غير أنه كان مكبلا بظروف الأسرة المادية، التي كادت أن تمنعه عن استكمال المسيرة.

1

لا يذكر "حمد" عن تلك اللحظات سوى دموعه تنساب بغزارة، غير عابئ بوجوده وسط الأعمام والأب، ليقرروا ماذا سيحدث بعد أن صار كفيفا "اتفقوا إني أفضل في القرية وأشتغل في المسجد لأني حافظ القرآن"، ظل يشكو "انا متفوق وعايز أكمل تعليمي"، لم يستطع الوالد مقاومة دموع الابن، انصاع لرغبته "قاللي لو هبيع الجلابية اللي عليا هخليك تكمل"، أصبحت القاهرة هي الوجهة الثانية للبحث عن مدرسة مناسبة لحالته، بينما اتخذ من جملة الوالد وتضحيته طريقا لا يحيد عنه أبدا.

كمن فُتحت له طاقة القدر كان حال "حمد" مع مدرسة طه حسين للمكفوفين، لم يشعر فيها بالغربة، فالاهتمام بهم بات كبيرا مع زيارات المسئولين للمدرسة، بين إقامة في القاهرة والمنيا مع الأهل، كاد عقله أن يطيش بسبب رغبته في تحصيل أعلى الدرجات "اتعودت أطلع فوق السطح أذاكر وأنزل أساعد أبويا في الشغل.. كان يتخض عليا من كتر المذاكرة فأمي تقوله سيبه دة ربنا حارسه"، انتهت الثانوية العامة بتفوقه كالمعتاد، لتبدأ مرحلة الجامعة والعمل؛ حيث الأعباء أعمق، والعراقيل أكثر توحشا.

لم يشعر ابن المنيا يوما أنه عاجز، ابتلع صدمة ضياع عينيه بشكل ما، تقبلها بصدر رحب، لم يتسرب له إحساس فقدان البصر إلا مع دلوفه سوق العمل؛ سنوات الجامعة مرت ناعمة لا يشوبها سوى مواقف يمر بها معظم الطلاب، مجموع "حمد" حرمه الالتحاق بكلية الإعلام جامعة القاهرة، فكانت كلية الآداب بجامعة المنيا، قسم إعلام بديلا، بعد أن وافق الدكتور الراحل عبد الهادي الجوهري، عميد الكلية على انضمامه لها "كان خايف معرفش ألاحق على الشغل والصحافة.. قولت له إديني فرصتي ومش هخذلك"، وقد كان.

2

الصدمة كانت كبيرة حين رفض القسم تعيينه بعد التخرج بتقدير مرتفع "الحجة كانت إن الدنيا زحمة ومش هينفع حد يتعين حاليا"، وقتها انتقل إلى القاهرة ليبدأ عملا مستقلا يعينه على نوائب الحياة. شقة بمنطقة المطرية مساحتها لا تتجاوز الـ70 مترا، يعيش فيها 15 شابا؛ بين طلاب وعاملين؛ كلٌ أتى من محافظة مختلفة ليستكمل حلما عالقا، تفتقت إلى ذهنه فكرة استكمال دراسته من خلال الماجستير- بجانب عمله بإحدى الشركات الخاصة- لكن بكلية الإعلام جامعة القاهرة، ولم يعارض المدرسون الموجودون بالكلية الأمر، بل دعموا رغبته.

نسبة الـ5% المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، لعنة تلاحق "حمد"، تمنعه من أداء الوظيفة كما ينبغي "كنت عايز يبقى ليا دور.. انا لسة عايش مموتّش"، لكن روح القوانين المصرية غافلة، في عمله الأول كان يحصل على 99 جنيها "كانو بيدوهم لنا بالربع جنيه"، يعمل كأنه لا يعمل، كان واحدا ضمن طابور طويل على نفس النهج "مصرين يهمشوا ذوي الإعاقة"، آلمته نظرات الإشفاق من المديرين، وجملة "طب اقعد في البيت وهنبعتلك الفلوس كل آخر شهر"، لكنه أصر على العمل كي يدبر أمره، بالإضافة لمرتب من وزارة الأوقاف التي عمل بها كخطيب.

مرارا فكر في الاستسلام لكل شيء، إلا أنه استمسك بأمل التعيين في المجال الذي يعشق، حال الانتهاء من الماجستير الذي حصل عليه بتقدير ممتاز عام 2007 "وروحت لجامعة المنيا تاني عشان أتعين فكان الرد إن مفيش مكان". صار الوضع أصعب على المستوى الأسري، توفيت والدته عقب إتمام الرسالة بأيام، وأخته الأصغر كانت ستبقى وحيدة في منزل العائلة وأراد ان يبقى معها، فارتأى أن ذلك دافعا إنسانيا كافيا لرئيس القسم لتعيينه، لكن رفض أيضا، حتى بعد محاولات مدرسي كلية الإعلام التدخل.

3

مشتتا بين المنيا والقاهرة قضى "حمد" السنين التالية، تزوج وعاشت زوجته مع الأخت في منزل المنيا، فيما لم تنضب محاولاته لدلوف الكلية "للأسف فيه سنتين راحوا من عمري من 2007 لـ2009 عشان كنت فاكر إني هتعين"، ولمّا عايش موت الأمل، لم يتبق له سوى إرسال خطابات لمجلس الكلية "قولتلهم فيها إنهم متعنتين ضدي"، غير عابئ بتأثير ذلك على مستقبله فـ"الكيل طفح وقتها ومبقتش فارقة".

وحين لملم أمره وانتقل إلى عمل آخر كانت رسالة الدكتوراه أول ما جال بخاطره. في حكاية الدكتور الصعيدي جنود مجهولين؛ من ساعدوه  في إتمام الأبحاث المطلوبة، متطوعون قرأوا له بلا كلل، مشرفو رسالته بكلية الإعلام، جامعة القاهرة، والتي تتحدث عن دور الإعلام المسموع والمرئي في التوعية بقضايا حقوق الإنسان لدى ذوي الإعاقة في المجتمع، منهم الدكتورة ابتسام الجندي، عدلي رضا، وانشراح الشال "اللي بتعتبرني زي ابنها".

الثلاثاء الماضي كان الموعد مع المناقشة، قلب "حمد" ينبض بشدة كمن يدخل امتحان لأول مرة، يقف أمام جمع الأساتذة، يعلم إنه إذا حصل عليها فسيكون أول عربي مصري كفيف في مجاله يأخذ الدكتوراه، تصارعت المخاوف برأسه بينما يشرح للجالسين ويناقشهم، إلى أن أعلنوا إجازته بتقدير ممتاز، مع التوصية بتعيين في أحد الجامعات الحكومية.

وحيدا كان "حمد" بكلية الإعلام، الإخوة في المنيا والزوجة، غير أن صحبة الزملاء هونت الكثير "كانت فرحتهم جزء من سعادتي"، لتستمر نفس الحالة بعد مجيء حفنة ورود، من رئيس الجمهورية يتمنى له دوام النجاح.

4

حلم الرجل الذي قارب على الأربعين عاما لازال يحبو، ما أراد من كل ما يفعل سوى توصيل صوت ذوي الإعاقة في مصر، من قتلهم البحث بين أروقة الدولة عن دورهم كمواطنين فاعلين، وإثبات أهليته على عمل أي شيء "انا ممكن أروح أشتغل في أي جامعة خاصة ولا برة.. بس انا نفسي أخدم البلد"، يردد ذلك بقناعة على نفسه دوما، كي لا ينسى هدفه الأصلي.

رغم الإنجاز الأخير، غير أن "حمد" مقيد بتعنت قسم الإعلام بكلية آداب المنيا ضده، فلن تُحل الأزمة من نظره، إلا بقرار رئاسي بتعيينه، ينتظر ذلك بفارغ الصبر "لو محصلش حاجة في موضوع التعيين قريب حاسس إني هيجيلي اكتئاب.. انا معايا دكتوراه بدرجة عاطل"، يتمنى ألا يضطر للتنازل عن حلم التدريس، فشقاء والده الذي أوشك على "بيع الجلابية" لن يضيع سدى من بين يدي الابن المحاصر بين روتين لا يسمن ولا يغني من جوع.

فيديو قد يعجبك: