لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"مستعمرة الجذام".. ألم الصراخ ضد وعي زائف لعالم يتوحش

د. عمار علي حسن

"مستعمرة الجذام".. ألم الصراخ ضد وعي زائف لعالم يتوحش

د. عمار علي حسن
09:13 م الأربعاء 25 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

على ضفاف المعاني الفكرية البعيدة والكبرى، يجمع الألم بين قصص المجموعة الأخيرة للكاتب الكبير فتحي إمبابي المعنونة بـ"مستعمرة الجذام"، إذ أن مضمونها يعزف على أوجاع متنوعة لأشخاصها، ما بين أولئك الذين يبكون على حلم ضائع، وذلك الذي يضنيه عشق محكوم عليه بالنقصان، وهذا الذي لا يزال يكابد حيرة مقيمة، عما إذا كان ما حط في رأسه وعشش في زمن بعيد وحدد مساره في الحياة كان جديرًا بكل هذا الاحتفاء من عدمه، ثم تقرر القصص، أو توحي، وربما تجهر بأن كل شخصياتها التي تمثل فئات عريضة في الواقع إن لم تتجاوز هذا الألم، بمعالجة أسبابه، فإن مستقرها ومستودعها هو "مستعمرة الجذام"، حيث الخوف والعزلة والتآكل المستمر.

وقد تماهى الكاتب مع هذا الوجع بلا حد ولا قيد، فتركه يعبر عن نفسه كما يحلو له، متنقلا بين سرد وشرح، وبين وصف وتحليل، وبين ذهاب وإياب في الزمان والمكان، يحكي أحيانا كأنه يسامرك، ثم يحمل عليك كأنه يقرع طبلا مدويا لينبهك، بأن العالم الذي نعيش فيه غارق في الأكاذيب، وأن كثيرًا مما قيل سابقا لم يعد صالحا لتكراره، وأن المياه التي تدفقت في مجارير السياسة، وأوصال الأيديولوجيات فقدت معناها، حين انتقل أصحابها من الحماس المفرط لها إلى التفكير النقدي فيها إثر تجاربهم المريرة معها وبها ولها.

وكما أن ميلان كونديرا قد نبه في روايته "كائن لا تحتمل خفته" إلى "الكيتش"، وهو الكلام الفارغ أو نفايات الكلام من شعارات زاعقة وألفاظ براقة لا معنى حقيقي لها، نجد إمبابي ينبهنا إلى مفهوم "التذيت"، أو التمركز حول الذات، الذي أصاب كثيرا من المثقفين، حين تخلوا عن أحلامهم ومساعيهم وأفكارهم العامة التي تتماس مع مصالح الناس وأحوالهم لحساب منافعهم هم كأفراد أو كجماعة تفهم وتعي وتدرك، لكنها تتواطأ أو تصمت أو تمالئ وتداهن، رافضة الاعتراف بأن هذا يعد هروبا من المسؤولية، بل خيانة للدور وطبيعة المهمة.

في القصة الأولى "الرجال الطبيعيون" نواجه عالما صاخبا يتردى إلى أسفل ويصير كابوسا مرعبا، عبر عنه الكاتب بلغة حادة عنيفة، ما تبينه البداية الدالة على هذا: "كنا نخوض في لجة من ظلام. أستمع لدبيب الجموع الصاخبة وأتحسسه، فتتملكني مشاعر الدهشة، إذ إنه لم يخطر ببالي أني سأشاهد حالة من حالات الهبوط الجماعي كتلك، وخاصة أني أمضيت سنوات مراهقتي أقرأ تلك الروايات التي كانت شاهدا على انتصار الإنسانية عبر تاريخها، فهل كان كل ذلك محض هراء.. من يعلم؟".

وبطل القصة الذي يتساءل: "ماذا سيصبح مصير الزواحف عندما تراجعت الغابات، وتصحرت المراعي" لا يلبث أن يرمي تعاسته في وجوه الجميع، وهو يدرك أن النضال الطويل المضني في سبيل الحرية والعدل والمساواة والكرامة قد انكسر على أسنة ما يسميهم الرجال الطبيعيين، وهم لديه "الفراعنة والأكاسرة وأباطرة الرومان والجالسون على سدة الخلافة والملوك والسادة اللوردات وقادة الإمبراطوريات الفاتحة، العسكريون، الفاشيون الصغار، تجار المخدرات والهيروين الأغذية الفاسدة، والذين يدسون السموم في طعام أطفالنا.. الراقصون في معابد الفساد والملونون القابعون خلف كراديس الفكر الملوث، يعرضون ألوانهم التي حصدوها من أسواق النخاسة، يبيعون مساراتنا ومصائرنا لأشباههم وأزلامهم وكل من يهرب من السفن الغارقة".

وكأن بطل القصة هنا يردد مع أمل دنقل في لحظة تماهيه مع سبارتكوس وهو ممدد على مشانق المغيب بعد هزيمته:

"لا تحلموا بعالم سعيد

فخلف كل قيصر يموت

قيصر جديد

وخلف كل ثائر يموت

أحزان بلا جدوى

ودمعة سدى".

أو كأن بطل القصة التعيس، على رهافة حسه وعمق وعيه، يشاطر أروى صالح حسراتها الأخيرة وهي تكتب "المبتسرون" قبل أن تُقدم على الانتحار، أو حتى ينفتح على أفهام الذين انتقدوا "التقدم إلى الخلف" و"توحش الرأسمالية" و"العبودية الطوعية" وكل أشكال الرق الحديثة المزيفة التي يعيشها الناس وهم يتوهمون أنهم أحرار.

لكن بطل القصة، وهو يهبط من عالم يهوي إلى القاع المظلم، لم يستسلم، إنما تذكر أنه لا سبيل أمامه سوى مواصلة الكفاح، حيث تنتهي القصة بالقول: "ليس أمامي سوى طريقين، إما أن أنقل إليهم حكمتي الزائفة عما يجب فعله إزاء الرجال الطبيعيين، أو أن أربو بهم عن هذا المصير القاتم.. كيف؟ القتل!!.. وهل هناك بديل؟.. على وجه ما كانت خبراتي القليلة عندما شرعت في تنفيذ أحدها، كان ثمة شيء ما قد شرع في التهامي.. ماذا أفعل؟ كان علي أن أشرع في المقاومة".

وجاءت المقاومة فعلا في القصة الثانية "عزيزي تيمور أيها المنتشر العظيم"، التي تستلهم تجربة جيل السبعينيات، لا سيما من الحركة الطلابية، وتأتي على ذكر شخصياتهم الحقيقية مثل أحمد عبدالله رزة وسهام صبري وآمال عبدالهادي وتيمور الملواني وسيد القط وأسامة خليل وماجد إدريس وحسام سعد الدين ومحمد المخزنجي وشوقي الكردي ونبيل قاسم، ومعهم الكاتب فتحي إمبابي نفسه. فهؤلاء كان عليهم أن يرتقوا الخروق التي صنعها انقسام اليسار بين وضعين متناقضين عبرت عنها القصة قائلة: "ماذا أصبحنا بعد أن غادرنا السجون.. نحن المخلصين وغير المخلصين. الموغلون في الأيديولوجيا والذين لا يطيقون سماعها. الملتحقون باليسار الرسمي الذي يتلقى أوامره من الحدائق الخلفية للنظام، أم التنويريون المزورون الذين يقودون الشعب بوقاحة المثقفين، ودناءة النخاسين إلى حظائر التوريث ومسالخ العبودية".

هكذا تشرح القصة ما جرى في الواقع حقا حين ساد فريق على البقية، ممن انتصروا لذواتهم على حساب الصالح العام، وحين لم يخلصوا لـ"التجمع" على حساب "الانتشار"، وهي الفكرة التي تناولتها القصة نقلا عما جرى حقيقة، حين قررت السجينات السياسيات في "سجن القناطر للنساء" الإضراب احتجاجا على وضع رفيقتهن مع سجينات الآداب، وأعددن خطة لمواجهة قوات الأمن إن هجمت عليهن لإنهاء إضرابهن عنوة، وهي الانتشار سريعًا في المكان حتى لا يلحق بهن أحد، لكنهن تجمعن في نقطة واحدة لحظة الهجوم مدفوعات بغريزة الخوف، والميل إلى التضامن، والإيمان الجازم بأن مثل هذه الطريقة ستخفف عنهن الألم.

ويأخذ الألم شكلاً آخر، بعيدًا عن السياسة والفكر، في قصتي "امرأة من مخمل" و"الأميرة الدينارية"، حيث نجد رجلاً يعيش تجربة حب ربما أتته في وقت غير مناسب، فهو يمضي في الخمسينيات من عمره بينما المحبوبة فتاة في ريعان شبابها. وتنعكس هذه الحال الرومانسية على اللغة، فتتخلي عن عنفها الذي رأيناه في القصتين السابقتين، ويغيب التقرير والتحليل والنزوع الفكري والفلسفي أحيانا، لحساب الوصف، فنجد وصفا كاملا لجسد امرأة من مخملٍ يراها بطل القصة على الشاطئ، حيث يراها "سامقة كشجرة سرو" و"جسدها الخيزراني الممشوق مشدود كوتر" و"ساقاها البضتان القويتان مرسومتان في إلتواءات حد السيف".

ثم يغيب الوصف العيني لحساب الوصف التخيلي لامرأة أخرى في القصة الثانية؛ لأن جسدها قد توارى خلف نقاب، وليس أمام البطل من سبيل سوى تخيله، أو الاكتفاء بسحر عينيها منبعًا لجاذبية إليها، إذ يقول: "اليوم جاءت تحمل نظرة تسللت إليه عبر الإسدال، الذي يفصل بين وجهها الغامض وعالم الضوء، مفعمة بنظرات وإيماءات العرفان".

وقد تعلق بطل القصة بهذه المرأة/ الفتاة، وانشغل بها انشغالاً كبيرًا، وجاء معه انشغاله هذا حين ترك عمله في بلد غريبة وعاد إلى بلده، وظن أن الأمر قد انتهى على هذا النحو لكنه فوجئ بقدومها إليه في رحلة قد تكون عابرة في أيامها، لكنها مقيمة في معناها ومبناها، إذ اعتبرها البطل، على قلة وقتها، بمثابة عمره كله، لكنه لم يدع التجربة مستقرة على كفي الواقع الباهت الواضحة مفرداته وتكويناته، إنما خلطها طيلة الوقت بما هو محلق بعيدا، سواء بسبب خارجي هو النبيذ، أو استدعائه نصًا شعريًا أجنبيًا راح يواكب النص العربي طيلة القصة، متداخلا معه، ومؤديًا وظيفة فيه، بالتفاعل والتناغم والتعبير عن الحالة، أو بسبب داخلي يتمثل في قدرة البطل على التخييل.

وتأتي القصة الأخيرة، التي تعد مآل الأبطال المقهورين في بقية القصص، إذ تحوي صراعًا بين الوعي واللا وعي، وتبين التناقض بين حاجة الناس الماسة إلى أن يمضوا في حياة طبيعية ينعمون فيها بالحرية والعدل، وبين الظروف الواقعية التي تقبض على نفوسهم وعقولهم، وتضطرهم إلى قول وفعل ما لا يكونون راضين عنه بالضرورة، ويتحولون إلى قوارض أو زواحف.

في القصة نواجه شخصية علمية فاسدة ومفسدة، ونجد أنفسنا معها وحولها أمام سؤال جوهري: هل مهمة من يعرف أو يعلم هو أن يعمل على تحسين شروط الحياة أم يحافظ على وجوده، أو على حد قول عبد الرحمن الأبنودي في قصيدة له:

"هيَّ البطولة تُعيش اسمك

واللا البطولة إنك تعيش".

وفي القصة يشتعل مجددًا السؤال حول الجواهر التي تغيب على العوام، لكن يحس بها الذين يحوزون وعيًا جيدًا وهم يبحثون عن المسائل الوجودية، متجاوزين كل عابر وهامشي وبسيط، كي يهتفوا بما هو أشد عمقًا من الاستسلام السادر للموجود والمتاح، وهنا تصرخ بطلة القصة:

"أيها الوطن الخائن. أيها الرجال السادومازخيون والسيدات السادومازوخيات. أرجوكم. أتوسل إلى ينبوع الرحمة الكامن في قلوبكم المعدنية. لا أريد مصير صرصار كافكا ولا مسخه. وأنا أعلن عن توقيع على بياض وثيقة بالتعاون مع من يشاء على ما يشاء" وما إن انتهت من هذه المخاطبة الموجعة حتى "سقطت راغبة في الموت"، وهي هنا تتماهى مع حال مرضى الجذام، فهي تسقط راغبة في الموت، لكنها لا تموت، وهم موتى أحياء، وفق التوصيف المنصف الدقيق لحالهم.

إنها الرحلة المفضية إلى الوجع الدفين، الساكن في قلب الخوف والشعور بالضآلة والرغبة الجارفة في بناء جدار عازل عن الناس والحياة، يبدأه مريض الجذام مجبرا، وهو ينظر إلى أطرافه المتآكلة، ويعذر الناس تباعا في أسباب هروبهم منه، ليستسلم في النهاية إلى حاله، وينتقل الإجبار إلى الرضا، وربما الإذعان، الذي يجعل كل شيء يتساوى في نظره، الوجود والعدم، والحضور والغياب، ما يعني فناء كل شيء، وهو ما تعبر عنه القصة في ختامها الذي يأتي كاشفا: "قال لقد بشرنا بموت المؤلف، فلحق به النص، ولما مات النص قضي نحب القارئ".

في خاتمة المطاف فإن هذه المجموعة، التي يبدو أنها قد كتبت على فترات متباعدة، هي أشبه بمعزوفة حزينة، أو لوحة تشكيلية ضاجة بألوان زاعقة، تصنع عالمًا غرائبيًا ظاهرًا، يتغذى على واقع مرير ومخيلة جامحة للكاتب، الذي لا يتردد في نقد الواقع الثقافي والسياسي وكثير مما يعشش في ذهن الناس، حيث يهاجم الأفكار المزيفة، ويسخر ممن يتبنونها، ويضع عنف اللغة في وجه عنف الطبقة، ويرمي في النهاية إلى إعادة ترتيب الوعي، بما ينهي هذا الزيف، ويعيد تشكيل عالم مختلف، يسعى إليه الكاتب طيلة النص، رافضا تفاديه، ويثبته هنا لا ليقبل به إنما ليعين وجوده، ويحدد ملامحه أو جوانبه، فيسهل عليه نسفه؛ لأنه هو ذاته رافض لاستمرار واستمراء ما لا يتسق مع تصوره لعالم ظل طيلة حياته يحلم به، وينسجه على مهل من خيوط الثقافة والسياسة والعمران.

إعلان