لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

اصطياد العفريت

جمال عبد الجواد

اصطياد العفريت

د. جمال عبد الجواد
09:01 م الخميس 26 ديسمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لكل منها أوهامه التي تعميه عن الحقيقة، وتعطله عن العمل. ولكل أمة أوهامها التي تكبلها فتمنعها عن التقدم والفوز في سباق الأمم. الأوهام كالعفاريت، كائنات خرافية من صنع خيالنا، لكنها قادرة على إصابتنا بالخوف والعجز لدرجة الشلل. في سيرته الذاتية "طفل من القرية" حكى لنا سيد قطب عن العفاريت التي جعلت الناس في قريته يعيشون في فزع دائم، فجاءت كتاباته من أفضل ما كتب في هذا الموضوع.

قبل أن يمسسه داء الإخوان كان سيد قطب كاتبا وناقدا نابها واعدا، وإن لم ينل حظا كافيا من الشهرة واللمعان والنجومية، وربما كان هذا هو ما دفعه إلى طريق الإخوان الذين استقبلوه بحفاوة واحتفاء، عوضته عن "المعاملة العادية" التي كان يلقاها بين الناس خارج الدوائر الإخوانية. لم ينضم سيد قطب إلى الإخوان في شبابه، ولكن بعد أن قارب الخمسين من العمر، وبعد مقتل حسن البنا، وعندما أصبح موقع قيادة الإخوان شاغرا، وفي هذا ما أرضى طموحات قطب، صاحب النزعة الذاتية المفرطة.

دعنا من سيد قطب، ولننظر فيما كتبه عن العفاريت في قريته، وكيف أن الناس هناك كانوا يتوقعون العفريت ويجدونه في شوارع القرية ليلا، وعلى ضفاف النيل والترع، وبالقرب من السواقي، وعند الطاحونة القديمة، وفي كل بيت مهجور، وفي ذبابة الفاكهة الخضراء، وفي كل قط يصادفونه في الشارع ليلا، أما نهارا فالعفاريت لا تسكن إلا في أجساد القطط السوداء. كان الناس يعيشون في فزع دائم من العفاريت، وكان جانبا كبيرا من حياتهم يتمحور حول اتقاء شر العفاريت، أو العلاج من مسهم.

لم يكن سيد قطب استثناء من هذه الخرافات، حتى جاء إلى مدرسة القرية ناظر شاب، قال للتلاميذ إن كل حديث عن العفاريت خرافة أساسها الجهل، وأن كل القصص التي تروى عنها هي قصص مكذوبة لأغراض في نفس رواتها، أو أنها خيالات متوهمة. حكى التلاميذ الصغار للناظر المستنير عن عفاريت تظهر بصورة أرانب في الدرب الضيق ليلا. طلب الناظر من التلاميذ مرافقته ليلا لرؤية هذه الأرانب، ولإمساك واحد منها وفحصه. تردد التلاميذ بين الخوف وحب الاستطلاع، وشجعهم وجود الناظر، وحفظهم لآيات القرآن الواقية من مثل هذه المخاطر.

اجتمع التلاميذ في الموعد للقيام بالحملة الأولى من نوعها في القرية. انطلقت الحملة العجيبة إلى الدرب الضيق مكمن العفاريت المرهوب. اقترب التلاميذ من الدرب، فارتجفت قلوبهم، وسابت مفاصلهم، وبحث كل منهم عن آية الكرسي والصمدية يتقوى بها ويتحصن. استقبلت التلاميذ عيون كثيرة، حمراء وزرقاء تتوهج في الظلام...عيون العفاريت التي تطق شرارا من غير شك. إنها العفاريت الأرانب تقفز وتجري هنا وهناك، وتمر من بين أقدامهم. اضطرب شمل الجمع، وفقدوا رصيد العزيمة والتماسك، وبحثوا عن آيات القرآن فوجدوها اختفت من ذاكرتهم تحت وطأة الفزع.

صاح الناظر في التلاميذ أن هذه ما هي إلا أرانب حقيقية، وقبض على واحد منها، عادوا به إلى المدرسة، ومع هذا فعبثا حاول الناظر إقناع التلاميذ الإمساك بالأرنب الأسير أو لمسه، فهم في كل خطوة يرقبون الأرنب وقد نطق، يطالبهم بإعادته إلى مكانه في الدرب، ويهددهم بالويل إن لم يفعلوا؛ أو ينقلب في يدي الناظر قطا أو كلبا، أو هواء يفلت من بين يديه؛ وطبعا لم يحدث أي شيء من هذا. وصل التلاميذ إلى المدرسة، وعبثا حاول المدرس إقناعهم بأن يأخذ أحدهم الأرنب ليبيت عنده في البيت حتى الصباح، فمن ذا الذي يدخل العفريت الماكر طوعا إلى داره، لينفرد به هناك بعيدا عن جماعة التلاميذ.

استقر الرأي على أن يبيت الأرنب في المدرسة، فإذا وجدوه في الصباح كما هو، فإنه أرنب ابن أرنب، وإن لم يجدوه، أو وجدوا في مكانه حيوانا آخر، فهو بالتأكيد عفريت. عاد الجمع في الصباح، فوجودا الأرنب كما تركوه في الليل. وأرسل الناظر فراش المدرسة يسأل أصحاب البيوت المجاورة للدرب الضيق عمن ضاع له أرنب. فعاد ومعه أحد السكان؛ ليتسلم الأرنب الغائب، الذي تسلل من تحت باب المنزل المرتفع عن الأرض، وانساب في الدرب، كما يصنع كل ليلة مع إخوته الأرانب العفاريت.

في حياة كل منا عفاريته الخاصة، التي ليست في الحقيقة سوى أرانب ضعيفة. الأمر لا يحتاج إلى أكثر من شخص مستنير، استنارة ذلك الناظر؛ ليرفع الحجب عن الأوهام ويظهر الحقيقة. يمكن لأي منا أن يكون هذا الناظر المستنير، فإن لم يكن فما عليه سوى اتباعه عندما يصادفه، شريطة ألا يكون المتبوع عفريتا، ووهما جديدًا، كالعفريت الذي أصبحه سيد قطب.

إعلان