لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

سن الأربعين

سن الأربعين

د. أحمد عبدالعال عمر
09:01 م الأحد 27 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"آهٍ.. ها هو العمر يمضي. الزمن هذا الحيوان المفترس، أنظر إلى نفسي وأنا على مشارف الأربعين، فأكاد أصعق. تنتابني حالة جنون داخلي. ماذا صنعْتُ خلال تلك السنوات المديدة، هل يمكن أن أكون أنا قبل عشرين عامًا. آه... العربي يصعقه القهر دون أن يستطيع فعل شيء، لماذا وُلدتُ هنا على هذه الأرض الناقصة، في عصر يكبح رغائب الإنسان الجامحة، كالمهور في فجر فتوتها؟!".

هكذا تكلم الروائي السوري حيدر حيدر، على لسان بطل روايته "الزمن الموحش" معبرًا عن صدمة وحزن العربي المعاصر من سرعة وصوله إلى سن الأربعين، وتجاوزه لمرحلة الطفولة والصبا والشباب، ودخوله مرحلة الكهولة، دون أن يحقق شيئًا من أحلامه الشخصية والوطنية، ودون أن يصل إلى شاطئ أمان في الحياة يستريح فيه ويطمئن بالاستقرار عليه.

وهي حالة تكاد أن تكون قاسمًا مشتركًا بين أبناء جيل التسعينيات في مصر، الذين ينظرون اليوم إلى ماضيهم بغضب، بعد اكتشافهم أن أزهى سنوات عمرهم، وأكثرها قدرة على العمل والإنجاز والعطاء، قد تبدَّدتْ في ظل نظام حكم يُعدُّ من أسوأ الأنظمة التي مرّتْ بتاريخ مصر المعاصر؛ حيث كان الفساد السياسي والإداري والظلم الاجتماعي، عنوان العقدين الأخيرين في حكم الرئيس مبارك، وأصبح فيهما المجتمع في حالة جمود يشبه الموت، كان إعلام مبارك يطلق عليها اسما خادعا هو الاستقرار.

وبعد إدراكهم أيضًا أن ثورتي 25 يناير و30 يونيو، لم ينجحا بالكامل في إحداث تغيير وإصلاح، يجعل على هذه الأرض ما يستحق الحياة، بل زادت أعباء الحياة المادِّية عليهم، وصار تحدي النجاح والتحقق والتصدي للعمل العام أكثر خطورةً وشراسةً.

ولكن بعيدًا عن السياسة، فإن سِنَّ الأربعين ليس دائمًا سن البكاء على أطلال العمر، ولا يخلو من جماليات متعددة في حياة المرأة والرجل.

فعند المرأة، هو سن البلاغة الأنثوية في كل تجلياتها. سن استنطاق المسكوت عنه، وإخراج المكبوت، واحتراف العطاء، كالأم الحنون، دون انتظار مقابل سوى الامتنان وحفظ الجميل عندما يمر العمر وينطفئ الوهج. ولهذا يحلو للرجل الحكيم التحليق والمقام في حضرة الوهج الأنثوي الأربعيني.

وعند الرجل هو سن الكشف والحكمة، وقديمًا كان هو سن النبوة؛ حيث يتحقق لنا فيه نضج الرؤية والخيارات والأدوات، بما يتيح لنا أن نفهم ما كان، وما هو كائن، واستشرف ملامح ما يمكن أن يكون. وهو السن الذي نُدرك فيه بحكمة وبصيرة إنسانية صقلتها خبرة السنين، دوافع سلوكنا وسلوك الآخرين، ونقاط ضعفهم وضعفنا، واحتياجاتهم واحتياجاتنا.

ومن تجليَّات حكمة الأربعين، أن يصبح رد فعلك على تقلبات الحياة، ومساوئ سلوك البشر، ومسار وتطور الأحداث، ومصائر الأحلام هادئًا دون فزع أو انكسار. أن تنمو لديك موهبة قبول مفارقات وتناقضات الحياة والقدر والبشر. أن تقرأ الناس والأحداث في ضوء فكرة النموذج المركب متعدد الأبعاد، ومن زوايا مختلفة، وتتخلص من لا واقعية فكرة البُعد الواحد والتفسير الواحد والنموذج الواحد والمنظور الواحد.

ومن تجليّات حكمة الأربعين، اكتشاف أنَّ كونك عابرًا في حياة الآخرين أو كون الآخرون عابرين في حياتك، ليس مدعاةً للصدمة والحزن، ففي النهاية كلنا عابرون بهذه الحياة التي لا ثبات ولا ديمومة فيها. مع ضرورة تعلم عدم ابتذال النهايات، وإدراك أن هناك فارقًا كبيرًا بين عابرٍ مرَّ كأنَّه لم يكُن، وعابرٍ مرَّ فَتَرَكَ أثرًا فاق كلَّ مُقيم.

وفي النهاية، فإن أبرز تجليَّات حكمة الأربعين، إدراك أننا أسرفنا على أنفسنا كثيرًا، وأرهقنا أعصابنا، وحملتنا الحياة حينًا، وحمَّلْنا أنفُسَنا أحيانًا أكثر مما نحتمل، وقد آن الأوان لأنْ نعيش ونستمتع بالحياة في ضوْء الإمكانات المتاحة. وأن نُخضع ممارستنا في الحياة المهنية والعامة، لقاعدة الوصل والفصل؛ الوصْل مع الحياة المهنيّة والعامّة، لكي نكون ناجحين وفاعلين. والفصل معهما، دُون أنْ نتحوَّل إلى كائنات فاشلة سلبية لا مُبالية؛ فنحافظ بذلك على رأس مالِنا الوحيد في الحياة، وهو الصحة الجسدية وصفاء الروح والذهن، فكل ما عداهما باطلٌ وقَبْض الرّيح.

إعلان