مفتي الجمهورية يكتب: نحو خطاب دينى جديد (2)
التجديد سنةٌ من سنن الكون، وضرورة من ضرورات العصر التى لا غنى عنها، وذلك مصداقًا لقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، والفرد والمجتمع معنيان دائمًا بالتجديد والتحديث والتغيير والإبداع، لما ينطوى عليه ذلك من تطور وتقدم، ويتوقف التجديد على فهم الواقع والتعرف على سلبياته ومحاولة علاجها، ورد الناس إلى المنهج الصحيح.
وعليه فلا أحد يُنكر أننا أصبحنا بحاجة ماسة إلى التجديد فى خطابنا الدينى، الذى نقصد به استخدام الحجة الدينية فى الحكم على ما يستجد للمسلمين فى حياتهم المعاصرة، لكن تجدر الإشارة إلى أن هذا التجديد فى الخطاب الدينى لا يكون فى ثوابت الدين وأصوله ولا فى العقيدة، إنما يكمن فى تطوير لغته وآلياته والمطالبة بأخذ كل ما هو جديد لمواكبة الواقع المعاصر والتغيرات الحادثة والمستجدات المستمرة، وما يحيط بها من تحديات.
كما أن التجديد الذى نقصده هو تجديد فى الآليات والوسائل بعيدًا عن المساس بالثوابت المتمثلة فى القرآن الكريم وسنة النبى صلى الله عليه وسلم فالمراد هو الفهم الجديد القويم للنص، فهمًا يهدى المسلم لمعالجة مشكلاته وقضايا واقعه فى كل عصر يعيشه، معالجة نابعة من هدى الوحى وبالتالى فإن الفهم الجيد للنص يؤدى إلى العلاج الجيد، ومن ثم الوصول إلى الخطاب المبنى على صحيح الدين، انطلاقًا من قاعدة المقدمات الجيدة تؤدى إلى النتائج الجيدة.
وتجديد الخطاب الدينى ليس بالعمل العشوائى أو الارتجالى، إنما هو عمل مبنى على برنامج فكرى شامل ومتكامل، يأتى بعد أهداف وخطط وأساليب واستراتيجيات ومتطلبات مادية وبشرية، تشمل الداعية ومؤسسات الدعوة ومؤسسات المجتمع كافة، وبما أن الأديان السماوية تشكل فى ذاتها جانبًا ومكونًا أساسيًّا من مكونات هوية الأمة من أفراد ومجتمعات، فإن الخطاب الدينى أصبح مؤثرًا مهمًّا فى تشكيل وتوجيه أفكار وسلوكيات ومشاعر ووجدان أفراد الأمة.
وللشيخ الغزالى رأى فى أمر التجديد؛ حيث رأى أن تجديد الدين يعنى توضيح ما أبهم الجهلُ من تعاليمه، وتمكين ما زحزح التهاونُ من أمره، وحُسن الربط بين أحكامه وبين ما تُحدثُ الدنيا من قضايا، وتنزيل أحوال الحياة المتغايرة على مقتضيات القواعد العامة والمصالح المرسلة، ولم يفهم أحد من العلماء الأولين أو الآخرين أن تجديد الدين يعنى تمييعه أو إتاحة العبث بالنصوص والأصول لكل متهجم، ونحن نفهم أن التجديد أصبح حاجة تحتمها طبيعة هذا الدين، وتفرضها الخصائص التى خصَّ اللهُ بها هذه الشريعة الغراء.
والتجديد يعنى جعل الشىء جديدًا، فتجديد الخطاب الدينى يعنى إعادة نضارته ورونقه وبهائه وإحياء ما اندرس من سنن الدين ومعالمه، ونشره بين الناس، والتجديد المنشود والمقصود ليس تغييرًا فى حقائق الدين الثابتة القطعية، لتلائم أوضاع الناس وأهواءهم، ولكنه تغيير للأسلوب المترسخ والمفهومات المترسبة فى أذهان الناس عن الدين، ورسم للصورة الواضحة، ثم بعد ذلك تعديل لأوضاع الناس وسلوكياتهم حسبما يقتضيه الدين.
لكن يثور فى النفس سؤال وهو كيف يتسنى لنا تجديد هذا الخطاب الدينى؟ والإجابة عن هذا السؤال تأتى من حديث النبى آنف الذكر عندما يقول «يجدد لها دينها» ذكر النبى فيه تجديد الدين، والخطاب الدينى جزء من هذا الدين ومن هذا التجديد، وعليه فهذا التجديد يشمل الفرد والمجموع والمؤسسات، فى ظل توسع الأمة واتساع رقعتها وما تشهده من أحداث إضافة إلى الانفتاح العالمى بحيث أصبح قرية صغيرة، وما تبع ذلك من وضع جديد فى المنظومة العالمية.
بلا شك تجديد الخطاب الدينى أصبح فى عصرنا الحالى ضرورة ملحة، فى ظل خطاب دينى مفكك وفردى فى وقت تسيطر فيه على العالم فكرة التجمعات والمؤسسات والتطور التكنولوجى، وعليه فلا بد من خطاب واعٍ ومعاصر ومنضبط يستطيع أن يجارى التقدم والنهضة الحادثة فى العالم بل ويساعد عليها ويدفعها لإخراج الأمة من هذا التيه والدوران الذى تدور فيه حول نفسها.
وعلينا أن نتبنى خطابًا إسلاميًّا جديدًا، سواء فى بنيته وأولوياته وإعادة صياغة أطروحاته، أو فى تجديد تقنياته ووسائله وتطوير قدرات حامليه، بهدف تلبية احتياجات الشعوب المسلمة فى الظروف الراهنة التى تعيشها، واستجابة للتحديات التى تواجهها فى سياق التفاعل مع ما يجرى حولها فى العالم من أحداث.
نحن بحاجة إلى خطاب بنائى وليس خطابًا إنشائيًّا، يدفع حركة المجتمع عبر الفرز بين قيم التحلى وقيم التخلى، وإدراك سنن التغيير الحضارى، بحيث يعيد للإنسان دوره وفاعليته وحضوره فى حركة المجتمع، خطاب ينبع أولا من طبيعة الإسلام، الذى ينطوى على دعوة مستمرة إلى التجديد، وفى الوقت نفسه يستجيب للتطلعات المشروعة للشعوب العربية والإسلامية فى الحرية والتقدم وتحقيق الشهود الحضارى.
على دعاة التجديد أن ينتقلوا من ضيق الرأى إلى سعة الشريعة ومقاصدها، مع أهمية هذه كلها فى العلم الإسلامى والدينى، ولكننى أدعو إلى الاعتصام بسعة الشريعة وبحبوحتها لتجديد الاجتهاد الإسلامى وتيسيره، يقول الله تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ».
مقالات ذات صلة:
- مفتي الجمهورية يكتب: الخطاب الدينى.. ما بين التجديد والإصلاح (1)
فيديو قد يعجبك: