الولادة بعد أيام| رحلة سيدة حامل من ووهان إلى الحجر الصحي في مصر
تقرير - مارينا ميلاد:
تفاجأت رحاب وهي في بيتها بنزول ماء منها أثناء الحمل. عادة ما يكون هذا الأمر مؤشرا طبيعيا لامرأة حامل. تتوقعه رحاب وتجهز نفسها للذهاب إلى المستشفى إن حدث، خاصة أنها في شهرها قبل الأخير. لكنها لم تفعل، لم تكن في استطاعتها الخروج من منزلها، وإن خرجت فهي تعرف أنها لن تجد مستشفى يستقبلها. فاضطرت إلى البقاء مكانها متوترة، خائفة، لا تعرف ما المفترض فعله في تلك الأيام الصعبة التي تعيشها وغيرها في مدينة ووهان الصينية، التي اجتاحها فيرس كورونا المصنف حاليًا من منظمة الصحة العالمية على أنه "تهديد خطير للعالم".
4 سنوات إلى الوراء.
كانت رحاب علي تبلغ من العمر 28 عامًا، تعمل أستاذا مساعدا في جامعة الزقايق، متزوجة ولديها ابنة عمرها ثلاث سنوات. لم يختلف رتم حياتها منذ وقت طويل إلا في تلك اللحظة التي جاءت لها فرصة لطالما تمنتها.
وصلها خبر بأن اسمها ضمن قائمة الـ100 طالب المختارين من أعضاء هيئة التدريس والمراكز البحثية ليدرسوا في الصين، وهي المنحة التي تقدمت لها منذ فترة.
لم تفكر وقتها في أي شئ سوى الحصول على دكتوراة من واحدة من كبرى جامعات الصين في مدينة ووهان، وهي "Huazhong university of Science and Technology". لم يشغل رحاب ما هي ووهان؟ ما طبيعتها؟ أو كيف ستتأقلم مع العادات والثقافة المختلفة؟.
في الأخير وصلت رحاب مع زوجها وابنتها إلى ووهان. تأقلمت مع نظامها التي رأته مختلفًا تمامًا، فاعتادت أن تشتري كل شئ بكود ليخصم ثمنه من حسابها البنكي حتى لو كان ذلك عند بائع الخضار، صارت لا تستغرب المواصلات الحديثة أو الدراجات الكثيرة حولها، ولا يزعجها بعض المحال التي تبيع الضفادع والثعابين كمأكولات. ارتبطت كل يوم بالمدينة خاصة بعدما حضرت دروس اللغة الصينية في جامعتها. "المدينة جميلة وطوال الوقت كانت الناس ودودة في تعاملها".
سكنت رحاب حي "جوانجو جيلو - GuangGuJie" ضمن مجمع سكني يضم عربًا من السودانيين والعراقيين وعائلات مصرية من الدراسين مثلها. ذلك ما جعلها تحب هذا الحي. كما أن ابنتها وجدت الألعاب في حديقته وعلى مسافة قريبة الحضانة التي تعلمت فيها اللغة واختلطت بالأطفال الصينيين.
فكل شئ كان على ما يرام قبل أن يصبح هذا الحي "محظورًا".
مضت الأيام على رحاب في ووهان، لم تواجهها تقريبا مشكلة تُذكر وظل تركيزها منصبًا على دراستها التي كان من المفترض أن تنتهي منها العام الماضي، لكنها أمدت لعدم انتهائها من الأبحاث المطلوبة في مجالها "computer science".
لاحظت رحاب في فترتها الأخيرة زيادة أعداد المصريين في ووهان، وهو شيء أسعدها. لذلك ظلوا على تواصل بـ"جروب المصريين" – كما يسمونه - على التطبيق الأشهر هناك "We chat"، الذي سيتحول الحديث المتداول فيه فيما بعد إلى سياق مختلف ومأساوي.
وفي بداية العام الماضي عرفت رحاب بحملها الثاني، وبدأت في المتابعة الدورية في أحد المستشفيات، الذي لم يخبرها في الشهور التالية إذا كان مولودها بنتً أو ولدًا وفقًا لقانون صيني، الذي تقول رحاب إن "الهدف منه هو ألا تجهض المرأة نفسها إذا علمت أنها بنت لأنهم لا يفضلون البنات". ورغم توضيحها لهم أنها لن تفعل ذلك وأنها أجنبية، لكنهم لم يستجيبوا في نهاية الأمر.
وحين وصلت رحاب إلى شهرها الثامن في ديسمبر الماضي، بدأت الأخبار تنتشر بوجود فيروس خطير، لكن لم تكن تعرف الكثير وقتها عن ذلك المرض، فتكتمت السلطات الصينية على المسألة تمامًا.
مع ذلك، مارست حياتها بشكل طبيعي، واشترت مؤنًا لبيتها بسبب عطلة رأس السنة المقبلة عليهم، والتي تغلق فيها كافة المحال، لذلك اكتظت الأسواق بالمواطنين ونشطت حركة السفر من وإلى البلد.
لكن مع أواخر الشهر تزايدت أعداد الحالات المصابة وخرج الأمر عن قدرة السلطات في إخفائه، فبدأت الإعلان عن "فيروس كورونا" واتخذت الإجراءات اللازمة لذلك، والتي تضمنت فيما بعد فرض الحجر الصحي على المدينة، ومنع الدخول أو الخروج منها، وتوقف جميع وسائل النقل.
وقبل حتى أن تعلن السلطات قراراتها. ألزمت رحاب نفسها ألا تخرج من بيتها ولا تذهب إلى الجامعة رغم أنه يُفرض عليها الحضور إلى المعامل يوميًا. لكنها اضطرت إلى كسر هذا الحجر والذهاب بابنتها إلى المدرسة - مرتديات الكمامات - لتؤدي امتحانها: "كانوا يقولون لنا لا تلمسوا شيء، لا تخلعوا الكمامة، وإذا كانت ابنتك بها سخونة لن تدخل".
وعندما بدأت تشعر بآلام الحمل وما يصحبه فهاتفت طبيبتها التي أبلغتها أن المستشفى قد أغلق، كما أن المستشفيات الأخرى لن تستقبل سيدات حوامل، وصارت تستقبل مرضى كورونا فقط.
"كنت خائفة، لا أعرف كيف سأولد؟ ويمكن أن يحدث ذلك في أي لحظة!"، حتى عندما سمعت رحاب بوجود مستشفى يستقبل حالات الولادة، فصاحب المعلومة أخبر آخر بأن سيدة ولدت هناك وأصيبت بالفيروس، وكان طفلها سليما ثم انتقل له المرض منها بعد ولادته.
أُجهضت فكرة رحاب بالولادة في أي مستشفى هناك. قررت الاستسلام لنصائح الأطباء المصريين الذين تعرفهم في ووهان "كان الوضع صعبا جدا تحديدا لامرأة حامل. وصلت لمرحلة أنني سأتقبل أي شئ يحدث، واستعوضت ربنا في نفسي".
قضت وقتها في الحديث عبر "we chat" مع أهلها أحيانا لتطمئنهم وتخبرهم أنها في مدينة أخرى، ومع زملائها المصريين والعرب: "جميعهم كانوا في رعب ويبكون. أشخاص أصابتهم حالة نفسية وآخرون امتنعوا عن تناول الطعام".
تبدل شعور رحاب وزملائها نسبيًا بعد أن تواصلت معهم السفارة المصرية في منتصف الشهر الماضي لتطمئن عليهم. "بمجرد التواصل شعرنا بأن هناك أملاً في عودتنا".
أيام من التواصل قبل أن ترسل السفارة لهم رسالة انتظروها مفادها ترتيبات عودتهم إلى مصر. فتخبر رحاب ابنتها – بقدر عمرها – أن "هناك مرض يمكن أن نموت بسببه وعلينا الذهاب".
وفي يوم 2 فبراير الساعة الخامسة عصرًا بتوقيت الصين (11 مساء بتوقيت مصر)، تجمع المصريون عند نقاط ليستقلوا حافلات أحضرتها لهم السفارة لتنقلهم إلى المطار "لم أكن أصدق أننا عائدون. أننا نجونا من الموت!".
بمجرد وصول رحاب والـ304 من المصريين إلى مطار ووهان تم الكشف أكثر من مرة على درجة حرارتهم، وعلى إثرها حُجز اثنان منهم للاشتباه بهما، ثم غادر الباقون بعد انتظار نحو 6 ساعات لفتح بوابة الطائرة.
وصلت رحاب ومن معها إلى مطار العلمين يوم 3 فبراير، لتبدأ فترة الحجر الصحي في فندق بمرسى مطروح بعيدا عن المناطق السكنية.
أخذت رحاب الـID الخاص بها، والذي يحدد مكان غرفتها وابنتها في مبنى العائلات والسيدات (مبنى أ). وجدت مستلزمات شخصية وتليفونًا بداخله خط مصري. وأول ما فعلته بعد أن ارتاحت قليلا هو الاطمئنان على أهلها ومن بعدهم أخبار ووهان، واكتشفت أن حي "جوانجو جيلو - GuangGuJie" الذي كانت تسكنه وحُظر الحركة فيه كباقي المناطق، تم اكتشاف خمس حالات إصابة به.
قامت رحاب بعمل التحاليل المطلوبة من الأطباء بالحجر، وتابعت هي والسيدات الحوامل التي تقول إن عددهن 7 تقريبًا مع طبيبة النساء الموجودة في الفندق.
وفي صباح كل يوم من أيام الحجر، تحرص أن تخرج مع ابنتها لتلعب في منطقة الأطفال بالفندق، تتناولان الوجبات التي تقدم لهما، وتذهبان إلى الحديقة لـتستمتعا بالشمس التي تقول إنها لم تكن تراها في ووهان.
وفي النصف الآخر من اليوم، تتصفح رحاب الأخبار، تجري اتصالاتها، وتراسل زملاءها وأولياء الأمور في مدرسة ابنتها، الذين يرسلون إليها الدروس التي يجب أن يذاكرها أبناؤهم "يشعرون بالحزن لأننا غادرنا ولأن بلدهم المتقدمة يحدث لها ذلك".
تحاول رحاب أن تستغل الوقت الآن في أن تذاكر لابنتها هذه الدروس إلى جانب المنهج المصري الذي كان من المفترض أن تمتحنه في السفارة المصرية هناك. في الوقت الذي تجلس فيه على اللاب توب الخاص بها لتستكمل رسالتها "أون لاين" مع مشرفها الذي أبلغها أنه وقتما تستقر الأمور وتعود الدراسة عليهم جميعا التواجد من اليوم الأول. "يجب أن أعود لأنني تعذبت في رسالتي ووصلت للمرحلة الأخيرة والمفترض مناقشتها قريبا".
قاطع حديث رحاب دق مشرف التمريض على باب غرفتها، هي المرة الثالثة التي يأتي فيها لقياس درجة حرارتها وابنتها، لكن وقفته هذه المرة طالت لثوان ليبلغها بأنه من اليوم حتى نهاية أيام الحجر الصحي الـ14 تم منع الخروج من الغرف بعد أن كان ذلك مسموحًا.
تنتظر رحاب أن يأتي مولودها في أي لحظة خلال هذا الشهر. وعند سؤالها عن الاسم الذي فكرت فيه إذا جاء صبي أو فتاة – ضحكت ثم قالت: "المفروض أسميه كورونا".
- بث مباشر لضحايا فيروس كورونا حول العالم:اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: