إعلان

بالصور والفيديو- كوكب "أواوين".. لا صوت يعلو فوق العربية الفُصحى (معايشة)

09:49 م الجمعة 18 ديسمبر 2020

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- إشراق أحمد ودعاء الفولي:

تصوير- إشراق أحمد:

تصوير فيديو- زهوة محسن:

حين يدور عبدالرحمن المكي ببصره داخل "أواوين" يرى أثر العربية؛ في كتابة الصغار على اللوحات، والورش المستمرة كُل أحد؛ يتعلم فيها الحضور مهارات التطريز وغيرها، شرط التحدث بالفصحى. يبتسم ثغر المكي متذكرًا كيف يُهيئ الآباء أوقاتهم ليحضروا مع الأبناء "هناك والد بدّل مواعيد عمله ويأتي من مدينة السادات ليبقى مع ولده ياسين صاحب الـ4 سنوات"، يحفظ ياسين الآن أبياتًا من الشعر ويتحدث العربية بطلاقة. أواوين (جمع إيوان) ليست مستقرًا للصغار فقط، بل مرفأً لمن يُحبون اللغة العربية، مساحة آمنة للتحدث بها وعنها، ملجأ لحكايات تُروى عن الشعر، النثر، قصص الأطفال، طقس اليوم، ذكريات الجامعة والحياة اليومية. أواوين حلم شيّده المكي على مهل، تُسقى جذور اللغة داخلها بالود، لا تعالي على الآخر ولا تلقين، فقط لغة صحيحة تنطقها الألسن.

يعرف لسان المكي النُطق الفصيح منذ عرف طريقه إلى الدنيا. في المنزل تُطّعِم والدته حديثها بالعامية المصرية بكلمات فصيحة، وفي الخارج بين جدران مدرسته في مدينة مكة المكرمة حيث وُلد، يلعب مع رفاق المرحلة الابتدائية "المساجلات الشعرية". لم تعرف اللهجة العامية طريقها إلى كلماته سوى مقتطفات من حديث آخرين، حتى بعد عودة أسرته لمصر في الثانية عشر من عُمره، لذا لم ير المكي في العربية سوى أسلوب حياة.

1في الليلة الأخيرة لعام 2014، سمع المكي عن شخصية "بابا نويل" لأول مرة، تساءل معلم اللغة العربية وعاشقها "لمَ لا يكون عندنا نحن العرب شخص حقيقي على الأرض يوزع الهدايا؟". استأجر زي فارس عربي ونزل إلى الشارع مهنئًا مَن يلقاه بالعربية الفصحى، لاقى الشاب وصلة سخرية، هذا يقول له "هو إيه اللغة اللي بتتكلمها دي" وآخر يخبره "كلمنا عربي وحياة أبوك"، لم يعرف أحدًا أن ذلك طبع الشاب ولا يتعمده.

واصل المكي جولاته بزي الفارس العربي في المدارس والحضانات ولم يتوقع الكثير، لكن حدث موقف اهتز له كيانه، ومعه أدرك أنه ربما يلقى صنيعه أكبر مما يتخيل "وجد رجلاً يركض نحو وهو يبكي بشدة "أنتو فين ولادنا بتضيع. أنا ابني 4 سنين ونص مش عارف اعمله عربي".

قرر معلم اللغة العربية أن يبذل المزيد من الجهد ليس فقط لتحبيب الناس في اللغة العربية، بل إعلامهم أنها لسان المصريين الأصيل وليس اللهجة العامية.

2في غضون أشهر تسارعت خطاه، أطلق العديد من الأفكار، ومع كل منها يزدَاد يقينًا أن الأمر ليس مستحيلاً، صنع تطبيقًا إلكترونيًا باسم "إعداد متحدث الفصحى"، وفي صباح يوم التدريب وجد أن هناك 20 شخصًا تواجدوا "فوجئت أن الأمر يحدث نتائج باهرة. المتدربون ما بين 9 سنوات إلى 30 عامًا. لم يحدث فارق السن شيئًا في التفاعل والاستجابة"، مر صاحب الـ36 عاما بالكثير، لكنه لم يترك الأمل، ظل مؤمنا باللغة، ومنها انطلق نحو مشروع أواوين المستمر منذ مارس 2015، تحت شعار "إحياء النفس العربية".

3في محافظة الجيزة وخارج البناية التي اتخذتها أواوين مُستقرًا، تقع حديقة صغيرة، يرويها الموجودون بصبر كما يفعل المكي مع حُلمه. ثمة قوانين في المكان، بعضها خُط على لوحات الحائط، أخرى يحفظها المترددون في صدورهم، أهمها "اللاءات الستة" كما يحكي المكي "لا للتعصب.. لا للإجبار.. لا للحكم على الآخر.. لا للسخرية.. لا للمقارنة.. لا للتهديد"، أُسست "أواوين" لـ"يأتي لنا الناس صباحا ليشربوا معنا الشاي ونتحدث العربية طوال اليوم ثم يرحلون.. بتلك البساطة"، يكره المكي أن يقول أحدهم "إننا مؤسسة تدريبية، نحن نُحب اللغة ونُحب أن يحبها الناس مثلنا".

420 شخصًا بالتمام ينتمون للمكان، يحضرون أنشطة متفاوتة؛ بين تبادل الخبرات، ورشة التمثيل الصوتي، وحتى جلسات إلقاء الشعر والنثر. قرر بعضهم ألا يصحب اللغة معه خارج حدود المساحة الآمنة، فيما أصر آخرون على التحدث بها في كل صوب "يتلقى بعضهم ردود فعل ساخرة، لكن المشكلة الأكبر حينما تأتي تلك الردود من أهاليهم"، تختلط مشاعرهم بين الغضب والضيق، لكن المكي ولأنه مر بكل ذلك "فأقول لهم إن الوقت سيجعل من حولكم يتقبلون اللغة".

5طيلة حياته اعتاد المكي التعامل مع السخرية من حديثه بالفصحى خاصة حينما عاد إلى مصر وسكن منطقة شبرا، واصل رفاق مدرسته نعته بالعديد من الألقاب مثل "خزاعة والشيخ ترافولتا"، في البداية صُدم الصبي حينها، لكن تميزه في الاطلاع لحبه الشديد للقراءة وحفظه القرآن الكريم كاملاً، جعله يتجاوز تلك الأمور، كانوا يستغربون حاله "يقولون لي صحيح تحفظ القرآن من الجلدة للجلدة"، فيما ذلك كان معتادًا في البيئة التي نشأ بها داخل مدينة مكة المكرمة.

6لا تنتهي المواقف التي يتعرض لها المكي، بعضها ساخر والآخر "مُحزن"، يتذكر سائق السيارة الذي بدت عليه أمارات الدهشة حين سمعه يتكلم العربية "أوقف سيارته وقال لي: لأ دانا أنزل لك بقى"، يضحك صاحب "أواوين" مستعيدًا اللحظة، فيما يحكي عن بائع عصير القصب الذي كلما رآه ناداه بـ"قُطُز".

تعلّم المكي أن الملتفت لا يصل. درّب عقله ليتلقى عبارات الاستهزاء بصدر رحب "الناس يتذوقون ما يُقدم لهم، لم يعرفهم أحد على حلاوة اللغة العربية، لا ننتظر منهم أن يحبونها فجأة"، لا ينزعج حين يتعجب الناس منه "لكن أنزعج جدًا عندما يخبرني أحد مُعلمي اللغة العربية: يا عم فُكها شوية"، يؤمن أن ابتعاد أهل اللغة عنها أول الطريق لضياعها "بعض المعلمين يتعاملون معها كأنها (أكل العيش) ثم ينتظرون أن يحترم الطُلاب اللغة.. مستحيل".

7لمجتمع أواوين ميثاق، أوله ألا يُسمع غير الفصحى، ومن يخالف عليه وضع جنيه في صندوق ورقي مخصص للمخالفين، لذا كانت أماني عبد الناصر أكثر من يدين للمكان، لم تتخل الشابة بعد عن عاميتها المصرية، هذه المرة الثالثة لحضورها إلى المكان. تضحك بينما تتذكر كيف كانت تعمل لتعليم اللغة العربية في روضة للأطفال الأجانب ففاجأها تبدل حال أحد الصغار من "تبدين اليوم جميلة يا معلمة" إلى "شكلك حلو أوي"، لكنه لم يكن الموقف الأول الذي دفعها للتردد على "أواوين".

قبل أشهر شاءت الظروف أن تكون بين 6 أشخاص من روسيا راغبين في تعلم اللغة العربية وتلاوة القرآن الكريم، كانوا ينظرون إلى طالبة الفرقة الرابعة في كلية الدراسات الإنسانية، جامعة الأزهر باعتبارها أحد الفاتحين "كانوا يقولوا لي أنت بتتكلمي إزاي عربي ويسألوني عن حاجات صغيرة لكني مش عارفاها"، كانت الشابة تتحدث إليهم بالفصحى البسيطة، لكن بين نفسها شعرت بالأسى. لمثل هذا المواقف قررت إجادة الفصحى.

8ما فعلته اللغة بأطفال أواوين، يجعل المكي فخورًا. في إحدى المرات، اختلف مع يحيى ذي التسع سنوات على تشكيل كلمة يركل "قلت له بيني وبينك المُعجم"، وعندما نظرا فيه "اكتشفت أن يحيى على صواب"، تكرر الموقف مع صغار آخرين "لكن الشاهد هُنا أنهم يعلمون المصدر الذي بإمكانهم الرجوع له، لو أننا علّمناهم ذلك فقط لكفانا"، فيما باتت ليلى ذات السبع سنوات تعرف كيف تكسب ود المكي "حين ترغب في الخروج للحديقة تطلب مني بالفُصحى فلا أستطيع الرفض".

9داخل المكان يتحرك الحضور بحرية، لا تتوقف الأنشطة طوال الأسبوع، تمتلئ الغرفتان الرئيسيتان بالأشخاص في العادة، لكن تم تقليل العدد بسبب فيروس كورونا المستجد، تُعقد بعض الجلسات عبر الإنترنت، فيما تنتظر أدوات الكتابة ومنطقة القراءة الحُرة والمكتبة عودة الجمع بصورة كاملة.

لا يخاف المكي من المستقبل، تكبر "أواوين" تحت عينيه "كان لدينا فقط 10 مقاعد.. والآن لدينا الكثير"، يمتن لمن قدموا المساعدة بما استطاعته أيديهم "كالسيدة التي أحضرت لنا بعض المقاعد الوثيرة من منزلها.. وهكذا كل من يأتي يُضف لنا شيئا"، يتعمّد الآن ألا يتواجد دائمًا داخل المكان "كي يُدرك الناس أن أواوين ليست أنا، يُمكن أن تُدار أحيانًا بدون وجودي"، مؤخرًا يُنفذ المكي ما أراد، تُساعده أسماء قنديل في العمل.

10قبل 10 أيام فقط بدأت أسماء عملها في المؤسسة، لم تستغرق سوى أياما ثم جرت العربية الفصيحة على لسانها "كان الأمر الأصعب أن خلفيتي العلمية في الهندسة، اكتشفت أن عقلي يعرف كلمات عربية كثيرة لكنه فقط لا يستدعيها".

تسعى صاحبة الـ26 عاما لتطوير المكان، تسأل الدالفين عما يريدون أن يرونه داخل المؤسسة، تتعرف من جديد على الحُلم، لم تترك عملها في الهندسة "أعمل من المنزل وأستطيع المواءمة بينهما"، الأيام التي تذهب فيها الشابة لأواوين هي الأفضل "أرى أناسا مختلفين دائما، أمارس التحدث بالفُصحى طوال اليوم، أسمع حكايات القادمين وأفعل شيئا أُحبه"، تستمسك باللغة، نصحها والدها ألا تتكلم بها في الشارع، وتتشتت هي أحيانًا بين عالمين، لكنها تُقدر التجربة.

11رُدهة طويلة تنتهي بُغرفة متسعة، يجلس فيها المكي إلى أماني وعائشة، يصاحبهم آخرون عبر تطبيق زووم، يناقشون شعر أبي الطيب المتنبي، يحكي عنه صاحب أواوين نادرة ثم يسرد بعضًا من أبياته، يلتقط أحد المشاركين طرف الخيط ويُلقي قصيدة ثانية، تتناثر القصص ولا يمل أحد، يتوقفون أحيانًا لدندنة أغنية عربية بسيطة، ثم تخبرهم أماني عن سائق الميكروباص الذي تكلمت معه بالفُصحى؛ سألته: هل وصلنا لقطار الأنفاق؟، رد بابتسامة: ليس بعد، فقالت له بتلقائية: "أستاذ عبدالرحمن المكي سيحبك كثيرًا".. تحكي أماني وتعلو الضحكات بين الموجودين، فيما تظل اللغة تتنفس وسطهم بطمأنينة.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان