لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

حراس الأثر وكاشفوه| كبير "آل سليك": "أصحاب العهد لا يخونوا"

11:14 م الأربعاء 06 مارس 2019

الريس علي فاروق

كتابة - وفيديو: مارينا ميلاد

فوتوغرافيا: أحمد طرانة

عاهدني يا ولدي

- أعاهدك على إيه يا أبوي أنت مربيني ربايه زينة

- لا تخون عرق الأجير ولا مال الوقف

- أعاهدك يا أبوي

لم يكن "علي" الذي لم يتجاوز وقتها 17 عاما، يدرك تمامًا ما يعنيه أبوه "الريس فاروق سليك"، لكن مع مرور السنين عليه وتنقله بين مواقع أثرية مختلفة للحفر مع بعثات مصرية وأجنبية، فهم أن عرق الأجير هو العمال الذين أصبحوا يعملون تحت يديه حين صار "الريس علي"، وأن مال الوقف هو الأثر الذي يشارك في كشفه. وفيما بعد أصبح "الريس علي" الحاصل على دبلوم فني كبير "آل سليك"، العائلة التي ينتمي لها أغلب ساكني قرية القلعة بمركز قفط في محافظة قنا، ويتوارث أفرادها مهنة الحفر والبحث عن الآثار ومعها "العهد".

3

ينصب أشخاص صوانًا على مدخل قرية "القلعة"، التي يتولى عُمديتها عائلة الشاعر أمل دنقل، ذلك لتقدم فيه إحدى العائلات كفنها لينتهي ثأرها مع عائلة أخرى يرجع إلى خمس سنوات مضت. يمر الريس علي قرب الصوان بسيارة أجرة بيجو يستقلها، قادمًا إلى قريته ليصلي الجمعة مع عائلته الكبيرة ويتناول الغذاء معهم في مندرة بيت العائلة القديم. فأصبحت تلك زيارته الأسبوعية المعتادة منذ أن ترك "القلعة" وأقام مع زوجته وأبنائه الأربعة في الأقصر ليكون قريبًا من مناطق الحفر.

يشبه الريس علي (55 عاما) تمامًا الصورة المعروفة للرجل الصعيدي: طويل القامة، بشرته سمراء منحوتة، وشاربه عريض، يرتدي جلباب وعِمه، ويقبض بيمناه، التي يضع فيها خاتما فضيا غليظا، على عصا ذات مقبض مستدير. يُلقي المارون عليه السلام حتى وصوله إلى بيت عائلته المكتوب عليه اسم: صديق سعيد السليك، الجد الذي كان يعمل رئيسًا لعمال الحفائر، ومن قبله أبيه وجده، الذين عملا مع أول عالم مصريات إنجليزي بدأ حفر في المنطقة، وهو سير وليام پتري.

متحف Petrie للآثار المصرية

ولبتري الآن "متحف الآثار المصرية" (Petrie Museum of Egyptian Archaeology)، وهو أحد المتاحف التابعة لكلية لندن الجامعية في العاصمة البريطانية، ويضم أكثر من 80 ألف قطعة أثرية مصرية وسودانية.

Ahmed Taranh (5)

صورة بالأبيض والأسود تجمع المندوب السامي البريطاني خارجًا من أحد المخازن المحفوظ فيها الآثار، وبجانبه مفتش الآثار والريس صديق، معلقة على أحد جدران البيت المكون من طابقين، والذي يسكنه الآن أبناء عم الريس علي، فإخوته الثمانية اشتروا بيوتًا بالأقصر، وأصبحوا يجتمعون ببيت العائلة في المناسبات: "جدي كان يشم الآثار في الأرض. كان في تونا الجبل بالمنيا وضرب الأرض بالعصا وقال الحتة دي فيها أثر".

Ahmed Taranh (17)

جلس الريس علي يتحدث مع أقاربه من الرجال، صَلى وتناول الغذاء معهم وانصرف مبكرًا عن موعده المعروف وهو بعد العشاء لارتباطه بموعد آخر مع الدكتور خوسيه جالان، مدير البعثة الإسبانية، التي يعمل معها هذه الأيام في منطقة ذراع أبو النجا بالبر الغربي بالأقصر.

كانت الساعة الثانية ظهرًا، وفي منتصف طريقه، الذي يستغرق نحو ساعة من قريته وصولًا إلى الأقصر، تمكن النوم منه، فاعتاد الريس علي أن يستيقظ كل يوم عند الرابعة والنصف فجرًا ليذهب إلى البعثة في الفندق الذي يقيمون فيه بالبر الغربي بالأقصر ويتحرك معهم في سيارتهم إلى منطقة الحفر بالصحراء عند الخامسة والنصف، ليبدأ عمله بجمع العمال وتوزيع المهام والإشراف عليها حتى الرابعة والنصف عصرًا ليعود إلى بيته القريب من الكرنك، يترك جلبابه التي غطتها الأتربة، ويأخذ قيلولته حتى المساء.

تزوج الريس قبل 24 عاما من السيدة منى حامد، ابنة خالته، رغم أنها لم تكن تسكن القرية، فهي تربت في السويس بسبب عمل والدها بإحدى شركات البترول، لكنهما تزوجا تماشيًا مع عادة زواج الأقارب المعروفة لديهم، وأنجبا: أميرة، وفاروق، وملك، وياسمين.

تقول زوجته، التي لا تفضل أن تظهر: "أعرف شغله لكن معرفش تفاصيله. أنا زي كل ستات الصعيد اللي قاعدين في البيت".

يأخذ الريس علي ابنه الوحيد فاروق، الذي يدرس في معهد سياحة وفنادق، ليعلمه المهنة، رغم أن فاروق لم ينجذب إليها حتى اللحظة ولم يرغب السير على نفس طريق أبيه وأجداده. أيضًا لم يلح عليه أبوه في أن يتعلم ويعمل بها ويتسلم منه العهد، لم يرغب أن يكون ابنه واحدًا من الأسماء، وقصته واحدة من القصص الضائعة: "مش عايز حقه يتهدر. فين إحنا من تاريخ مصر!".

MVI_0143_Moment

أما أميرة الابنة الكبرى (22 سنة)، فهي الوحيدة التي اقتربت من عمل أبيها بعد أن صارت مرشدة سياحية، فهذا أكثر ما تستطيع الفتاة الاقتراب منه في هذا المجال لأنه ليس هناك سيدات تعمل بالحفائر في الصعيد على عكس سيدات الوجه البحري اللاتي قد تشاركن العمال.

للريس علي 6 أخوة من الرجال، يعمل خمسة منهم كرؤساء عمال في هذه المهنة، أما أحمد فكان الأخ الوحيد الذي خرج عن مسار أسرته وعمل في مطار بألمانيا، تزوج من ألمانية، وعاش معها هناك، وأنجب: ياسين وميلا.

يبتسم الريس علي عند ذكر مكان كل واحد من إخوته، ويقول: "أبوي زي المزارع اللي معه شوية غله وشوحهم في كل مكان في الأرض".

MVI_0182_Moment

قبل أن يصل الريس علي إلى الأقصر بوقت قليل، استيقظ، أشعل سيجارته التي لا يوقفها، كانت الحرارة تصعد مندفعة إلى وجهه، تحدث مع السائق قليلًا، ثم نظر لي وقال ضاحكًا: "إحنا ناس بطبيعتها. نفس البيوت ومعناش مرسيدس. لكن الفرق بيني وبينهم إن أنا الوحيد اللي بشاكس".

كانت كلماته مقدمة لحديث عن عمله وأصوله وسبب تميزه لنفسه بالمشاكسة على عكس سابقيه وإخوته:

- إيه اللي بيزعجك في شغلتك؟

- عدم التقدير. الأجانب بيذكرونا في كتبهم لكن المصريين لأ. كمان مش بيساعدوا البعثات الأجنبية اللي جايه تخدمنا، ممكن يوقفوا تصاريح ويدفعوهم فلوس وده اللي يخليهم يشوفوا مكان تاني يدوروا فيه غير مصر!.

يصمت لحظة كأنه يتأمل في شيء ما ثم يكمل: زمان اللي كان عايز يتعلم آثار لازم يتعلم من يد قفطاوي (جدوده وأبيه)، لكن دلوقتي أنا حزين إن الأجيال الجديدة بتتعلم الأثر من الكتب. واللي يتعلم من الكتب متعلمش أثر.

- إيه أكتر البعثات الأجنبية اللي حبيت الشغل معها؟

- الألمان والإيطاليين بيشتغلوا صح معلهمش غلطة وعندهم خبرة كبيرة، اليابانيين والأسبان ممتازين لكن ينقصهم الخبرة.

- واللي محبتش التعامل معاهم؟

- الفرنساويين. محستش معهم بالأمان تجاه الأثر. بحسهم تجار أكتر.

حكايات كثيرة يرويها الرواة عن أساليب وأساطير الكشف عن الأثر. وما أكثرها ! لا يدعي الريس علي امتلاكه لمهارة "شم الأثر" مثل جده، ولا يصدق في "الأساطير"، لكنه يقول إنه يعرف طريق تلك الخبايا بالطريقة العلمية: "لما تمشي في الأرض تلاقي بقايا فخار قديم تقدر تقول إن الأرض دي فيها. ومن منظر الفخار بعرف عصره. بعدها بنعمل مسح آثري: بنستخدم "مجص" وده معناه إننا بنقص الأرض ونحفر بالطورية (الفأس)، والقدوم، والمسطرين، والفرشاة، وبعد عمق 30 سم نتأكد إذا كان فيه ولا لأ".

ينفعل عند ذِكر مصطلح "لعنة الفراعنة": "مفيش حاجة اسمها كده إحنا شغالين بقالنا سنين وسنين محدش مننا حصله حاجة. كل الموضوع إن اللي داخل بنيه سيئة بيحس إن فيه تمثال باصص له ويكون خايف ويجيله هيستريا. عكس اللي داخل بنية عمل".

لا ينكر الريس علي أنه وأبناء قريته "القلعة" يطلبون أعلى أجر في موقع الحفر عن غيرهم من العمال. لا يرى الرجل عجبًا في ذلك: "إحنا بنشتغل بفلوس كتير عشان مش هدفنا السرقة ولا الشغل اللي مش تمام والمعووج من العمال بنشوحه. وإحنا أوفر لصاحب العمل لأن اللي يتعمل في شهر يتعمل مع القفطاوي في أسبوع واحد. عشان كده كثير من محافظات تانية مش بيحبوا أبناء قفط".

- وربما يكون عدم الحب لأبناء قفط لأنهم يشاركون أهل البلد اللي بيتم فيها الحفر رزقهم!؟

أنا بشوف إن أهل البلد أولى بيها وبرزقها يعني لو فيه حفر في المنيا يبقى عمال المنيا اللي يشتغلوا، لكن المرمم والفني لازم يكونوا من رجالتي. أصول المهنة من زمن الزمن إن مفيش فاس يتضرب في الأرض إلا لو فني من قفط واقف فيها.

Ahmed Taranh (21)

كل أشقاء الريس علي الذين كُتب عليهم أن يحملوا "العهد" يتقاسمون الصفات ذاتها. وأكثر من يشبهه فيهم هو محمود (49 سنة)، والذي حمل عهده وعمره 16 عاما بعد أن أحب "الكرنك" من بين كل الأماكن التي كان يذهب فيها مع والده، وقرر أن يكون هو مستقره.

"الكرنك فيه روح خاصة. اتعلمت من أبويا وجدي ومن بعدهم الريس علي كتير في الحفاير. اتعلمت الصبر عشان أقدر اطلع أكبر الأحجار بطبيعتها زي ما كانت أيام الفراعنة".

للريس محمود 3 أبناء (16 سنة و15 سنة و9 سنوات)، اثنان منهم يأتيان معه ليتعلما المهنة على أن يأخذاها منه فيما بعد.

Ahmed Taranh (24)

بينما أحمد، الذي سلك طريقًا مختلفًا عن عائلته وإخوته، فلم ينفصل عنهم، ويحرص على أن يأتي إلى الأقصر مع زوجته الألمانية وأولاده في كل إجازة، "رغم أني اخترت مجال مختلف لكن اللي اتعلمته من عيلتي هو اللي فادني دلوقتي؛ اتعلمت أحب شغلي واتقنه لأقصى درجة".

أما زوجته "يانا" التي تعيش في أجواء صعيدية وهي لا تفهم العربية إطلاقًا. تجيب بإنجليزية ركيكة: أنها جاءت هنا للمرة الأولى منذ 14 سنة عندما تعرفت على زوجها، وبدأت من خلاله معرفة طبيعة عمل عائلته، وصارت "فخورة بأنها جزء من هذه الأسرة".

Ahmed Taranh (28)

غابت الشمس، وانتقل الريس علي بالمعدية من البر الشرقي إلى الغربي، ومنه إلى الفندق الذي تقيم فيه البعثة الإسبانية. هم يجلسون أمام أجهزة الكومبيوتر المحمولة، لا يضيعون ثانية واحدة دون عمل للحاق بوقتهم المتبقي في الأقصر قبل سفرهم إلى إسبانيا في إجازة. يرحبون بالريس علي فور دخوله، ويمازحهم هو بالإنجليزية ثم يطلق عليهم أسماء أخرى: لورا يناديها "ملكة"، وأخرى "صعيدية"، ثم يبدأ عمله بجانب دكتور خوسيه، مدير البعثة، الرجل الذي بدأ عمله مع الريس علي منذ 17 عاما، واشتركا معًا في اكتشافات عدة، يقول "خوسيه" إن أهمها كان ألواح خشبية كانت تستخدم لتعليم الكتابة، وهذا مثير بالنسبة له، حيث أن اكتشافاتهما لم تتعلق فقط بمقتنيات الفراعنة إنما بأشياء تجعلنا نتعرف على الحياة اليومية عندهم.

أما الاكتشاف الآخر فكان منذ 3 سنوات تقريبًا، وهو "الأقرب والأهم" عند الريس علي أيضا، وهو حديقة من الطوب اللبن بالقرنة في البر الغربي، ترجع إلى 4 آلاف عام.

يقول خوسيه عن علي: "أعرف أنه ينتمي إلى عائلة كبيرة مشهورة في هذا المجال في قفط، هم جيدون في معرفة كيف ينبغي أن يكون علم الأثار، ونحن حظنا عظيم أن يكون معنا واحدًا منهم في اكتشافتنا".

يا من تذهب سوف تعود

يا من تنام سوف تنهض

يا من تمضي سوف تبعث

فالمجد لك..

كانت تلك افتتاحية فيلم المومياء (يوم أن تحصى السنين) للمخرج شادي عبد السلام، والذي يحكي قصة اكتشاف مخبأ مومياوات الدير البحري 1881، رغمًا عن قبيلة الحربات الشهيرة التي كانت تحرس الجبل وما فيه وتتاجر به سرًا. يقول العم في أحداث الفيلم: "كانت هذه طريقتنا في الحياة، كانت وستظل طريقتنا في الحياة". وعلى اختلاف الطريقة والغاية بين واقع الفيلم وواقع آل سليك، لكن في النهاية يأخذ من يعملون مع التاريخ ومع أطلال قوم نعيش فوقها نفس الإصرار، نفس القوة والصلابة، نفس الصبر. يعترف كبير الساليكة بأن غيره ممن يعملون بالحفائر قد يسيئون لسمعة الباقين كقبيلتين متناحرتين، لكن يقول بثقة كبيرة أن آل سليك على طول زمانها ومن جذورها لم يؤخذ على أحد منها خطأ واحد يعيبه: "الخطأ عندينا زي العار واللي يخون الأثر ما يسلم أبدًا".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان