عبر أنامل 60 موظفًا.. المطابع الأميرية تعيد الحياة للمكفوفين (معايشة)
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
معايشة- إشراق أحمد وشروق غنيم:
تصوير- شروق غنيم:
لازمت طريقة برايل حياة محمود عثمان حتى بات مجاله الوحيد. منذ كف بصره في المرحلة الإعدادية لم يبرح عثمان لغة المكفوفين؛ عرفها قارئًا وعاملا في مطبعة خاصة وهو طالب في الثانوية، ثم صار معلمًا طيلة 34 عامًا في مدرسة الطباعة الثانوية المُلحقة بالمطابع الأميرية، تخرج على يديه العديد من المهندسين والعاملين. دار الزمن، بلغ عثمان سن المعاش، لكنه عاد إلى العمل قبل أربعة أشهر ضمن أربعة –مكفوفين- تعاقدت معهم هيئة المطابع الأميرية، ليصبحوا بين الفريق القائم على تجربة طباعة الكتب للمكفوفين، التي شرعت المطابع في تنفيذها مع إحضار أحدث ماكينات الطباعة الرقمية لبرايل في مارس 2018.
كان عادل شاهين، رئيس قسم طباعة البرايل والليزر، قبل أكثر من 30 عامًا أحد تلاميذ عثمان في مدرسة الطباعة الثانوية، فيما وُضع أمامه والمهندس محمود سرور، مدير إدارة المطبوعات المؤمنة، تحدياً جديدًا قبل عام؛ كيف يمكن تيسير حياة المكفوفين الدراسية والثقافية؟.
بدأت الرحلة، من خارج مقر الأميرية في منطقة إمبابة. طاف فريق العمل على مطابع خاضت التجربة، استطلعوا ما يحدث "بيستخدموا أسلوب يدوي من خلال آلة كاتبة وماكينة صفيح فالطباعة بتمُر على مراحل متعددة والموضوع بيبقى مُكلف" يقول سرور. لم تناسب مطابع الأميرية تلك الطريقة "أكبر تحدي بالنسبة لنا كان الاقتصاديات، عشان كده فكرنا في التكنولوجيا".
استطاعت هيئة المطابع اقتناء أحدث ماكينة للطباعة ببرايل، انتقتها لتواكب اتجاهًا جديدًا يجنح إليه المكان كما يقول سرور "الفكر المرتبط بالطباعة مبقاش زي زمان، مبقاش كّمي ونطبع بغض النظر عن الخسارة، دلوقتي اتجهنا إننا نقوي الطباعة الرقمية". الماكينة الجديدة مكّنتهم من اختصار مراحل الأسلوب اليدوي في طباعة البرايل، وذلك بإدخال البيانات إلى الكمبيوتر ثم طباعتها مباشرة.
في قلب رحلة كتاب برايل داخل المطابع، تقع إدارة الجمع التصويري، عبر قرابة 25 موظفًا يتبدل حال الكلمات من التواجد على ورق الكتب إلى أجهزة الكمبيوتر. يبدو الأمر بسيطًا؟.
لم يكن كذلك. على مدار نحو ثلاثة أشهر واظب عاملو الجمع التصويري على التدريب لإدخال الكتب بطريقة "برايل" للمكفوفين "كنا نشتغل ويرجع لنا في أخطاء فبنتعلم" تقول إيمان سعيد، مدير الإدارة عن بدايات التحضير لخوض تجربة طباعة الكتب ببرايل.
يختلف تجميع الكتاب المطبوع للمبصرين عن "برايل"، الأول يُنقل كما هو، فيما يتطلب الثاني المراعاة الشديدة للدقة الإملائية، لأن أي تبديل في الحروف يسفر عن رموز مختلفة، فضلاً عن اعتبارات بدايات الجمل ونهاياتها وحذف الصور وتحويلها إلى تعليقات مكتوبة، لتخرج السطور أفقية متتابعة بنوع خط واحد، حتى المعادلات والعلامات الحسابية تصبح كلمات مثل "يتحد" بدلا من علامة (+)، والجداول تُفرغ محتوياتها أيضًا.
وضع سرور وشاهين نفسيهما مكان الكفيف، عرفا طريقة الطبع البارز، كتابة الحروف، الأرقام والرموز. "حاولنا نساعد نفسنا عشان ندعمهم كويس" كما يقول شاهين. يغمض سرور عينيه بينما يفكر في تجاوز أي مشكلة "زي إن غلاف أي كتاب لازم هو كمان يتكتب عليه بالبرايل عشان يقدر يتعرّف هو هيقرأ إيه وكمان المبصر يعرف"، اتبعوا ذلك في طباعتهم للجريدة الرسمية ولائحة ذوي الاحتياجات الخاصة، وبرنامج الحكومة المقدم للبرلمان.
تحديات عدة خاضها فريق "برايل" داخل المطابع؛ حين أتت الماكينة في مارس 2018، كان على المهندسين أن يتعلما كيفية عملها "فضلنا مركزين مع كلام الخبرا عشان نفهمها كويس".
7 كتبٍ تم طباعة نسخ لها حتى الآن، فضلاً عن 1500 نسخة لأعداد مجلة قطر الندى الخاصة بالأطفال. ما إن ينتهي تجميع كتاب، حتى تنتقل النسخة الأصلية والبرايل إلى إدارة التصحيح. وهي مثل غرفة معلمين كبيرة في إحدى المدارس الحكومية، يجلس موظفو مراجعة النسخ المجمعة، يكسو القِدم أرجاء المكان، يجلس مراجعو اللغة العربية في أحد الأركان، فيما يتخذ مراجعو كتب اللغات ركنا بجوار باب الدخول "دورنا نراجع البروفة. بنطابق الأصل بالجمع اللي معمول، لو في أخطاء نبعته تاني لغاية ما نعتمده بعد ما يكون تمام" يقول إسماعيل عبدالقوي، رئيس إدارة التصحيح العربي.
27 موظفًا -20 للمراجعة باللغة العربية و7 للغات الإنجليزية، الفرنسية- بيدهم الانتقال إلى المرحلة الأخيرة للكتاب. وكعهد أي شيء جديد، كانت المهمة تستغرق وقتًا طويلاً في البداية إلى أن أصبح معتادًا. "في كتاب ممكن ياخد ساعتين، وفي كتاب يخلص في يومين حسب كمية الشغل" يوضح رئيس إدارة التصحيح دائرة العمل الحالي.
لا تخلو الرحلة من الضغط "ممكن نبقى شغالين كتاب برايل يجي قرار رئيس الجمهورية فنوقف عشان طباعة الجريدة الرسمية وبعدين نرجع تاني. أو يطلب مننا نخلص كتاب خلال 48 ساعة فبنتفرغ له" كما تقول إيمان.
يغلف المطابع طابعًا قديمًا يعود لتاريخ نقلها من بولاق إلى مكانها الحالي عام 1972، لكن بقدوم الماكينات الجديدة، جعلت رحلة الكتاب تمر بزمنين، أحدهما يكسوه اللون الأصفر الملازم للجدران، والآخر يغلب عليه التجديد، في مكان أحدث ماكينات الطبع البارز، التي استقرت في المطابع البالغ مساحتها 30 ألف متر مربع، ضمن ماكينات أخرى تدور منذ أكثر من 60 عامًا.
جوار ماكينة الطبع الحديث، يجلس هشام أنور، يُدخل محتوى كتاب جديد ليعطي أمر الطباعة، على الشاشة تتحول الكلمات إلى نقاط برايل، في خطوة جديدة يخوضها بعد 30 عامًا من العمل داخل المطابع.
مع كل محتوى جديد يدخله أنور يشعر "أن الواحد بيعمل حاجة مفيدة يتمنى ربنا يجازينا عنها خير"، كذلك لا يبرحه القلق خاصة في البدايات، يخشى أن تتوه إحدى الورقات المطبوعة فيعجز عن معرفة ما بها، لولا أن تتداركه أيدي أحد رجال المهمة الأساسية "لولا زمايلنا المكفوفين مكناش عرفنا حاجة. هما أيدينا وعنينا".
في وسط غرفة برايل طاولة تتراص عليها بعض الكتب، يبدو الفارق واضحًا بين النسخ التقليدية وبرايل، حولها يجلس الرفاق الأربعة الجدد على مقاعد خشبية.
مستقلين القطار يوميًا إلى القاهرة، يأتي الشباب الثلاثة من بنها. "إحنا جايين مع المكن" مبتسمًا يعبر عبدالرحمن سعد عن التحاقهم بالمطابع.
منذ 9 أشهر جاء حديثو التخرج إلى المطابع، حفظت خطواتهم أرجاء المكان، انقطعت علاقتهم بـ"برايل" بعد المرحلة الثانوية، وجدوا في التكنولوجيا ملاذًا أسرع، لكنهم لا ينكرون أهميته في حياتهم. يتذكر عثمان حين أراد العثور على أحد دواوين الشعر ولم يجدها سوى في دولة الكويت، يقاطعه عبدالرحمن ممازحا "لو فتحت التاب دلوقتي هتجيب الكتاب وصوتي كمان"، تنفلت ابتسامة من عثمان بينما يؤكد على حبه للكتب؛ ملمسها ومعانقة أياديه لها "ده صراع أجيال بينا هنا، بس الكتب الورقية ليها مكانتها الخاصة برضو".
بعد طباعة الكتب تأتي مهمة عثمان، الرجل الستيني، ورفاقه الشباب، يُعيد قراءة النسخ، يمرر إصبعه على كل حرف حتى يتأكد من صحة المكتوب، يخرج من حقيبته الصغيرة المسطرة والقلم، ما زال يحتفظ بها طيلة أكثر من أربعين عامًا، يدوّن الخطأ "وبعد ما انتهي من المراجعة أمليها للي قاعد شغال على الكمبيوتر".
لطالما حملت نفس عثمان أحلامًا تجاه احتياجات كتب المكفوفين، حين كان طالبًا ثم مُعلمًا أراد أن تصبح الرسوم التوضيحية والخرائط موجودة في الكتب التعليمية، بات الحلم قريبًا بعد العمل داخل المطابع الأميرية "اقترحت عليهم واتناقشنا إزاي ممكن نوفر ده في كتب التاريخ والجغرافيا والعلوم والرياضيات.. وبحلم نشوف الحاجات دي في الكتب قريب".
يجلب سرور وعادل بعض الأوراق السميكة المخصصة لطبع برايل، عليها محاولات رسم خريطة مصر وإفريقيا وآخر لوردة، يقول سرور إنهم يجتهدون لإخراج الإضافات الجديدة للكتب التعليمية.
بخلاف عثمان، الأكبر عمرًا وخبرة، يكسر الشباب، جليد التعامل مع العاملين في المكان، فينطلق محمود متجولا بين الأدوار، ويواصل عبدالرحمن التقاط الدعابات، يقول المهندس سرور مشيرًا إليهم "الناس دي عنينا بجد"، فيرد عبدالرحمن "ده يمكن عشان أستاذ محمود بيحتاجنا أحيانًا عشان يشوف في الضلمة"، ثم تنفلت الضحكات.
يرى عبدالرحمن في وجوده بين فريق العمل "رسالة". "إحنا بنطبع الكتب اللي بيها بيتعلموا طلبة المدارس وده دور عظيم لازم يكون جوانا قناعة أننا بنعمله"، فضلا عن إيمانه الشخصي بأن "الإعاقة مش في الجسم لكن في البيئة المحيطة"، لذلك لزم توفير الإمكانيات كي يتمتع ذوو الاحتياجات الخاصة بالاستقلالية.
رغم كون الفريق الرباعي أحدث العاملين، داخل المطابع، لكنهم أصبحوا عصب ارتكاز، إذ تعطي أناملهم الختم الدامغ لسلامة طبع نسخ برايل، قبل إرسالها إلى وزارة التربية والتعليم لاعتمادها.
صعوبات كثيرة خاضها فريق عمل "برايل" داخل المطابع حتى الوصول للحظة طباعة أول كتاب كما يقول سرور، لكن أشدها كانت بعد أسبوع واحد من استلام الماكينة. يتذكر رئيس المطابع المؤمنة ما حدث عند قطع الورق "لازم يدخل على ماكينة تقصه، فالمكبس كان بينزل على الورق يطمس النقط وتبقى ورقة ناعمة، يعني مش برايل أساسًا". كانت لحظة مربكة للفريق "إحساس إننا كده لبسنا في الحيط خلاص، وكل اللي عملناه هيترمي؟" لكن ما عرف اليأس طريقه إليهما.
حالة من العصف الذهني تلّبست فريق العمل "خلاص مفيش مِرواح، إحنا جايبين هدوم بيت هنا عشان أما يحصل طوارئ زي كده"، هُدي أحد المهندسين لطريقة "إننا نجيب مادة تبقى عازل بين المكبس وورقة البرايل" اقترح عليهم خامة "الفوم" لكنها لم تفلح، استلهما الفكرة نفسها "وبقينا نجرب مواد كتير لحد ما الفِل نِفع". كانت لحظة مُدهشة لهما حين نجحت التجربة "تهليل بقى وأحضان"، يحكي سرور أنه أول تعامل لهما مع برايل لكن في الوقت نفسه "في خِبرات متراكمة بتنفعنا من مجال الشغل نفسه".
قضى سرور قرابة 17 عامًا داخل المطابع، فيما أتاها عادل وهو في المرحلة الثانوية منذ 29 عامًا "مررت على كل مراحل المطبعة، من أول الطباعة على ماكينات الويب لغاية الديجتال"، لكن مع قدوم ماكينات برايل مسه التغيير، يشعر أنها الأقرب لقلبه منذ قدومه إلى المكان "حاسس إن ده اللي مديني كيان، إني بقول لنفسي أخرج من الصندوق اللي كنت فيه وأتعلم حاجات جديدة".
كذلك لا يفتقد الفريق الرباعي الحميمية في العمل، فيواصلوا دورهم خارج المطابع، يتواصل عبدالرحمن مع مدرسين سابقين له، يسألهم عن رأيهم فيما بين أيديهم من الكتب، يستمع إلى ملاحظاتهم وينقلها إلى أولي الأمر في المطابع ليجتهدوا في تنفيذها، فيما أصبح طارق السيسي مصدرا للمعلومات بشأن استفسارات أصدقائه عن التجربة داخل المطابع، ونشر لائحة ذوي الاحتياجات الخاصة بطريقة برايل.
ما زال فريق العمل منشغلًا بأفكار أخرى تخص المكفوفين، في كل مرة تدور ماكينات المطابع الأميرية لطباعة مادة للمبصرين يفكران في تحويلها إلى برايل "حاليًا بصدد إننا نطبع برنامج السياحة العلاجية للكفيف"، قوانين وكتب ثقافية فضلًا عن 76 كتابًا مدرسيا، فيما يحتفظ سرور بحلم داخله "إني أطبع المصحف للمكفوفين زي ما عملت ده للمُبصِر".
فيديو قد يعجبك: