55 عاما في "الخدمة".. "أجندة" الشيخ محمد لإطعام زائري الموالد
كتب- إشراق احمد ودعاء الفولي:
تصوير- محمود بكار:
شارع ضيق يقود لمنطقة فسيحة، لا يصلها زحام مولد السيدة نفيسة، تخف الأقدام عليها إلا من الذين يعرفون "الشيخ محمد مصطفى"، يأتون لزيارته من قرى بعيدة، يجلسون في المكان الذي خصصه للزائرين كأنه بيتهم، يحصلون على واجب الضيافة ويتحلقون لذكر الله، تدور الحكايات عن "حفيدة النبي" ونفحاتها، بينما يتراقص قلب مصطفى فرحًا بتلك المناسبة، إذ يطوف الموالد منذ 55 عاما، يخدم الناس دون مقابل، إلا من أُنس وراحة تعتريه في كنف آل البيت، و"أجندة" يصحبها معه أينما ولى تذكره والمحبين باللقاء التالي.
خيمة متواضعة نصبتها عائلة مصطفى، تغطي أرضيتها سجاجيد بسيطة، يتخذها زائرو المكان مستقرا للجلوس والحديث والنوم. في تلك الخيمة؛ لكل شخص دور، فبينما تضع إحدى أخوات مصطفى أمامها الأواني لطبخ الأرز للضيوف، توزع الشقيقة الأخرى الشاي والخبز على من يريدون؛ حركة لا تهدأ من الصباح الباكر وحتى نهاية اليوم طوال فترة المولد.
قبل 55 عامًا بدأت علاقة مصطفى بالموالد؛ كان مازال صبيا "أبويا أصله كان في الطريقة الرفاعية، كان ياخدني معاه أتفرج واسمع واخدم الناس"، تُوفى والده عنه وهو في الثامنة، لكن الإرث كان كافيا لينجذب الصغير لنفس الطريق، لاسيما وأن أعمامه سلكوا ذات الاتجاه، يضحك قائلا: "لما قولت لأمي عايز أروح المولد قالتلي عايز تتدروش زي أبوك وتبيع القيراطين بتوع الأرض عشان تخدم في الموالد؟"، تشتت قلب مصطفى بين بر الوالدة وافتنانه بخدمة زائري آل البيت، لكن الأم استسلمت لرغبته مع الوقت.
في منطقة مصر القديمة، وأمام الخيمة يستقبل مصطفى الضيوف؛ تعلم صاحب الـ67 عاما أن مَن يخدم الناس لا ينتظر مقابل "اللي ملوش سند أهل البيت سنده واللي ملوش شرف أهل البيت شرفه واللي ملوش محنّة –حد حنين عليه- أهل البيت محنّته".
انطلق مصطفى يطوف المحافظات "خدتها من موالد القاهرة لحد إسكندرية وبقية المحافظات وربنا كرمني وروحت مولد سيدي أبو الحسن الشاذلي في مرسى علم"، في كل مكان له حكاية، لا يعرف كيف دبّر مؤونة الخدمة على مدار الخمسين عاما رغم عمله كموظف في أحد مصانع الكوك والكيماويات "بس ربنا بيبعت ويعين، كل مرة بتيجي برزقها".
عمل مصطفى لم يكن يسيرا "كنت بموت في اليوم مرتين تلاتة بسبب تعب الدخان"، لكنه ما تخلّف أبدا عن أي مولد، كان يُخطط قبل كل مناسبة، يحصل على إجازة من العمل لمدة يومين "الليلة الكبيرة والليلة اللي قبلها"، يُخبر عائلته لتجهيز المواد اللازم، يذهب ليقوم بدوره كخادم ثم يعود للعمل مرة أخرى، ظل مصطفى على ذلك الحال 35 عاما حتى خرج على المعاش "بقيت مستريح أوي، بقعد بالأسبوع والعشر أيام سايب الدنيا ورايا مش هاممني"، أحيانا ما تعارضت مواعيد أكثر من مولد "كنت وقتها أختار واحد فيهم بالإحساس كدة واروحه".
خلال أيام العمل، تعود مصطفى مرافقة زملائه أسبوعيا في زيارة ترفيهية إلى الإسكندرية، يخصصها لهم العمل. يتجول العاملون في أرجاء المدينة الساحلية، فيما يطوف مصطفى زائرًا للمقامات، إلى أن حدث ما دفعه للدعاء بأن تكون له "خدمة" في مولد المرسي أبو العباس.
في لحظة من المرح، اقترح عليه أحد زملائه أن يشاركهم النزول إلى البحر، استجاب مصطفى وما إن خلع عنه ملابسه وأمسك بالعمامة يرفعها عن رأسه "قلبي طب. اقلع العمة واحطها على الرصيف دي ما تتلبسش تاني" حدث الرجل نفسه. لا ينزع مصطفى الغطاء الأخضر عنه، يعتبره "شرف سيدنا الدسوقي"، لم ينزل المياه وعاد إلى القاهرة.
في مولد الحسين، أول "خدمة" بعد زيارة الإسكندرية، تذكر مصطفى موقف العمامة، فدعا "يارب بدل ما أجي عالة على سيدي المرسي أبو العباس اجعلي خدمة هنا وأنا كده كده بطلع الموالد".
يقول صاحب السابعة والستين ربيعًا إنه رزُق برؤية تبشره بإقامة خدمة في مولد "المرسي أبو العباس". في منطق "الدراويش" لا يحدث ذلك إلا "بإذن"، فليس كل مَن أراد تقديم الطعام لزائرين الموالد يفعل. اعتبر مصطفى تلك الرؤية "تأشيرة" سفر لخارج القاهرة، ومنذ ذلك الحين لم يبرح احتفالاً وتجمع لمحبي آل البيت إلا حضره.
خلال عمله، دائما ما وجد مصطفى مخرجا ليزور الأولياء وآل البيت، لكن الأمر اختلف تماما أثناء قضاء الخدمة العسكرية بين عام 1970 وحتى نصر أكتوبر، فبينما قلبه مُعلق بالموالد، حبسته تأدية الواجب الوطني عن الخدمة، غير أنه استغل كل إجازة قضاها في القاهرة ليقوم بما تعود فعله، فيما لم ينقطع عقله عن التفكير في الخدمة "الدرويش مش واحد بيقعد على الرصيف بس ويقولوا ده مجذوب، الدرويش ممكن يبقى في أي حتة بس روحه مع المكان اللي بيحبه، ودة اللي كان بيصبرني ساعتها".
من جيب جلبابه الأيمن، يخرج مصطفى مفكرة صغيرة، ذات لون أحمر داكن، اشتراها هذا العام ليدون تواريخ موالد الجمهورية بالشهور العربية وما يقابلها بالميلادي "أول لما تهل عليا السنة اجيب أجندة جديدة. أدون فيها المواعيد لأنها بتتغير، يعني مولد ستنا نفسية جاي السنة دي متقدم 11 يوم" يوضح مصطفى، الذي رغم حمله لتلك "الأجندة" إلا أنه يحفظ الأيام عن ظهر قلب، يذكرها كأنما يعرف باسمه.
يومان أقصى ما يستغرقه مصطفى ورفاقه من أجل التجهيز "للخدمة" قبل التواجد في أي مولد "بمجرد ما تتوفر الفلوس انزل السوق واشتري الحاجة"، ومن قبلها اتصال يدور على كل مَن في أسرته يذكرهم بالموعد القادم، نيتهم في ذلك "وتعاونوا على البر والتقوى"، ولا أفضل من "أكل العيش" تعبيرًا عن هذا كما يقول صاحب الخدمة، فبعد التواجد في السيدة نفسية، يستعد الشيخ الستيني للذهاب إلى منطقة القلعة، تحديدًا 21 فبراير الجاري ميعاد مولد "أحمد الرفاعي".
فيديو قد يعجبك: