بالصور-وادي النطرون.. مكان راحة البابا شنودة (بروفايل)
كتب- محمد مهدي:
تصوير-حسام دياب:
كان غاضبًا، وصل إلى دير الأنبا بيشوي مقررًا الاعتكاف، لم يتحدث البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية كثيرًا، قال جملة واحدة "مش عايز أقابل حد". الحزن على وجهه عكس ما يدور بحق أبناء الكنيسة في ذلك الوقت، هجمات في بداية عام 2010 بنجع حمادي، ومع نهايته بكنيسة العذراء بالعمرانية، بينما يد الدولة مغلولة كما يعتقد، فلم يجد سوى وادي النطرون، ملجأ له من الصخب الكامن داخله. مكان راحته الذي طالما وجد فيه الاطمئنان وصفاء الذهن والتقاط الأنفاس.
علاقة البابا شنودة بوادي النطرون، بدأت قبل تلك الواقعة بعقود طويلة، حينما أتى إلى دير السريان في 1954 وهو ابن الثلاثين، ترك العالم ورائه أملًا في سلك طريق الرهبنة، وبعد فترة قصيرة صار راهبًا باسم "انطونيوس السرياني". كان مداومًا على إرسال خطابات إلى شقيقه الأكبر، لكنه التزم بطبيعة حياته الجديدة فأرسل إليه جواب أخير من سطر واحد"لن أستطيع الكتابة بعد اليوم".
هناك، في وادي النطرون، عثر البابا شنودة على راحته، وجدها في العُزلة، يغيب لفترات طويلة داخل مغارة بجبل يبعد عن دير السريان بنحو 6 كيلومترات، يجلس وحيدًا مع الكتُب والأوراق والتأمل، يقرأ ويكتب ويُصلي، يستمتع بالصمت، يتعلم الإنصات، يعتاد العتمة ليُهذب خوفه، والتقشف فيزداد زُهده.
لعلمه ومجلسه الطيب، توافد الرهبان والقساوسة على مغارته. يستقبلهم بمحبة شديدة، غير أنه رغبته في العيش بمفرده أكبر. يطلب من الأنبا صرابامون، أسقف ورئيس دير الانبا بيشوي العامر-كان مايزال راهبًا- أن يصحبه إلى مكان أبعد، ظلا يسيران لساعات طويلة حتى وصلا إلى جبل بالقرب من البحر الفارغ، تحرك هنا وهناك قبل أن يُشير إلى مكمن مغارته الجديدة وابتسامة كبيرة تعلو وجهه.
اختاره البابا كيرلس السادس، أسقفا للتعليم والكلية الإكليريكية في أواخر 1962، وأُطلق عليه "شنودة" فاضطر إلى ترك منطقته المُحببة. غادر وادي النطرون إلى القاهرة لمباشرة مهام مسؤوليته، لكن حنينه للمكان لم يخفت، وحينما وقعت خلافات بينه والبابا، عاد إلى مكمن راحته إذ يقول "روحت هناك وجدت الراهب أنطونيوس السرياني ينتظرني، فعانقته وعانقني وصرنا واحد" ليقضي هناك نحو 9 أشهر.
في 9 مارس 1971، غادر البابا كيرلس الحياة. بات مقعده فارغًا في انتظار خليفته، وقع الاختيار على الانتخاب ثم القرعة الهيكلية، تقدم طفل صغير لا يتعدى الخامسة، وقف وسط الجمع الكبير، التقط ورقة البابا الجديد، ليُعلن الخبر بأنه "شنودة"، لم يكن موجودًا في القاهرة، طار الخبر إليه في وادي النطرون، لم يصدق إلا عندما أكد له صديقه الأنبا صرابامون.
مارس الباب شنوده مهامه بداية من 11 نوفمبر 1971، اهتم بشؤون الكنيسة، انطلق في كافة محافظات مصر، وسافر إلى الخارج كثيرًا، لكنه اعتاد على زيارة وادي النطرون من آن إلى آخر، خاصة في المناسبات الدينية، ثم اشتعلت الخلافات مع الرئيس السابق محمد أنور السادات، ليُعلن الأخير في سبتمبر 1981 إلغاء قرار رئيس الجمهوري رقم 2780 لسنة 71 بتعيين الأنبا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، لينتقل إلى دير الانبا بيشوي.
تلك المرة كان المكوث في وادي النطرون أشبه بالمنفى، لكنه لم يشعر بذلك "أنا هنا محبوس في الفردوس". مارس حياة العزلة من جديد، يخرج منها قليلا لتعليم الرهبان فقط، وحينما استقبل خبر اغتيال "السادات" شعر بالأسى نحوه، وظل في الدير حتى تدخل وزير الداخلية أحمد رشدي وصنع صلحًا مع النظام الحاكم.
بات الجميع يعلم مدى محبة البابا شنودة لوادي النطرون. كلما ضاقت الدنيا انطلق إلى دير الأنبا بيشوي، وفي المناسبات يحرص على الاحتفال هناك بين الرهبان والقساوسة. وفي ديسمبر 2011، طلب الأنبا سرابون لقاء البابا منفردًا، سُمع من الخارج صوت ضحكاتهما، لكن أحد لم يتبين ما يدور داخل الغرفة المُغلقة، قبل أن يُكتشف أن "شنودة" يكتب وصية وفاته، حيث اختار دير الانبا بيشوي لدفنه كونه المكان المقُرب لقلبه.
فيديو قد يعجبك: