ابن "النقشنبدي": السادات كان يلف خلفه الموالد.. وفرقة أم كلثوم انتظرته على باب المسجد (حوار)
حوار- هدى الشيمي:
تصوير- محمود بكار:
في بناية أمام مسجد الشيخ أحمد الطنطاوي في طنطا، جلس الحاج أحمد سيد النقشبندي، في منزله المتواضع، وعلى الجدران صور مختلفة لوالده شيخ الذاكرين، والمدّاحين الشيخ سيد النقشبندي، أحد العلامات والطقوس الرئيسية في شهر رمضان بكل منزل مصري وعربي، فأذعيت أدعيته وابتهالاته يوميا بعد صلاة المغرب، وتحولت لطقس لا يمكن الاستغناء عنه.
ورث الحاج أحمد بعض الملامح من والده، بوجهه المستدير وعينيه الطيبتين، والسماحة، التي كانت سببا في دخوله إلى قلوب الجميع، ويقول عنه "موهبة ربانية غير مكررة"، واصفا إحساسه الفني الجميل بالنغم، وموهبته الفطرية، ومساحات صوته وقوته، التي اكتسبها بالسمع فقط، وليس تعلم الموسيقي، فتميز عن سائر الخلق أجمعين.
جذبت نغمات النقشبندي وابتهالاته الرئيس محمد أنور السادات، فأصبح أحد مُريديه، وعشاقه، وتعرف عليه قبل توليه الرئاسة، فقال له "كنت بسمعك وأنا جاي من السويس، لمولد سيدي الغريب، وأقف برة اسمعك بالتلات أربع ساعات، لحد الفجر ما يأذن"، وصحبه الحاج أحمد لأكثر من مرة لمنزل الرئيس السابق في ميت أبو الكوم، ليستمع إليه بانفراد، ويتسلطن بصوته.
أثمر حب السادات للنقشبندي وللموسيقار النابغة بليغ حمدي، بعدد من الابتهالات والأناشيد الأروع في مسيرته، فأحضره السادات في أحد الأيام، وقال له "عايز اسمعك مع بليغ"، إلا أن ذلك التعاون في البداية لم يكن مقبولا للكثيرين ومن بينهم النقشبندي، وخشي الهجوم عليه لإصحابه الأناشيد بالموسيقي، فقال له المقربون "طيب شوف كده وهاترتاح، لو مش هاريحك ماتكملش"، وكان على رأسهم الإعلامي الراحل وجدي الحكيم، ولكنه ومع ذلك أصرّ على عدم تحويل أناشيده للحن لبليغ حمدي والتي يتسم أغلبها بالطابع الراقص، عند التقاء الاثنين معا، في استديو الإذاعة، وبرفقة وجدي الحكيم، واستماع النقشبندي للحن، تأثر بشدة، فقرر تسجيل النشيد، الذي تحول لأشهر أناشيد الراحلين "مولاي".
- مولاي:
حٌب النقشبندي لمولاه وسيد الخلق "محمد"، أكسبه الدأب والمثابرة، فلم يتوقف عند انتشار صيته في طنطا، وضواحيها، والإسكندرية والمنصورة ودروبها، فاستطاع بين عامي 1966، 1967 توصيل صوته للقاهرة، بعد إحياء ليلة في مولد سيدنا الحسين، ليستمع إليه الإعلامي أحمد فرّاج ويعرفه على بابا شارو "محمد محمود شعبان"، ويقدماه للإذاعة، وهناك أجازوه وأعطوه الدقائق التي تلي أذان المغرب، فانتشر هنا وهناك، عرفه الناس، وميزوه، وفي إحدى الليالي كان الحاج أحمد برفقته خارجين من مسجد السيدة زينب، ووجدوا من يصرخ قائلا "شيخ سيد.. يا شيخ سيد"، وعندما نظروا إليهم، وجدوهم بعض أفراد فرقة كوكب الشرق أم كلثوم، وكان برفقتهم سيد سالم عازف الناي، فألقوا عليه التحية، وتحدثوا معه بإعجاب شديد.
عَشق النقشبندي والده، وبالمثل كان الحاج أحمد، فلم يتوقف لسانه عن الدعاء لشيخ المداحين بالرحمة، والسكنة في الفردوس الأعلى، وشمل هذا الحب ابنائه الثمانية، الأربع بنات والأربع أولاد، والذي أنعم الله عليه بهم من زوجاته، الأولى الحاجة صديقة ابنة عمه، التي أشار عليها والده بها، والثانية والتي كانت "سيدة من أصل طيب"، فكان لهم جميعا منبع حنان، ومثال للأدب والرفعة، والذوق والجمال، والرقة، والحكمة الغير عادية، يقول ابنه الأكبر.
حنجرته التي لا تٌقدر بالذهب، وجمال صوته ورثه عن والده ووالدته، إلا أن هذه الهبة لم يتوارثها أحد من أبنائه، "في إحدى المرات سألني الشيخ صوتك حلو؟"، فأجبته بالإيجاب، وقلت له "أه كويس"، فطلب مني الدخول لغرفة بعيدة، وتأدية الاذان، وبعدما انتهيت قال لي "أنت تنفع ملحن".
الاختلاف دائما سر التميز، وهكذا كان النقشبندي، فالخطابة واليٌسر كانا أفضل الطرق بالنسبة له في الإنشاد والابتهال، "كان يقول الكلام ويخطب في الناس، وكأنه بيفهمهم قصده بهدوء"، وأحيانا تأخذه الجلالة وينطق بعض الآيات القرآنية كلاما فقط، ثم يُنغمّه، وفي الكثير من الأحيان، يأخذه الجمال أثناء الإنشاد، فلا يشعر بروحه، ويسرح في ملكوت الله، وتغمره حالة من الاندماج الكلي، وحالة صفاء تام "كنّا نشعر أحيانا بوجود اتصال بينه وبين شيء لا نراه"، ويتذكر الحاج أحمد في إحدى المرات كان برفقته في المسجد وحوله أعداد معولة من الموردين والأتباع والأحباء، ولكنه لم يشعر بهم وأخذته الجلالة، وأخذ يصدح ويشدو دون التفات لأحد.
-ابتهال الله:
وجه بحري كان قبلة للنقشبندي، فميلاده كان في الدميرة بطلخا في محافظة الدقهلية، وعلى الرغم من انتقاله للصعيد برفقة والدته وزوجها، واستقراره في طهطا بسوهاج، ولكنه قرر العودة مرة أخرى إلى طنطا، ليعيش ويستقر فيها، ليكون بجانب أحب اثنين لقلبه، والده الشيخ محمد، والسيد أحمد البدوي، فكان بينهما "وّد غير عادي".
اقتدي النقشبندي بالشيخ محمد رفعت، فمثلما كان الأخير يقرأ القرآن بكل جوارحه وأحاسيسه كان النقشبندي، وقاله عنه "شعرت أنه يقرأ القرن من روحه، وغير متكلف، ولكن بعدما كبرت في السن، لم أستطع تقليده"، وكما أحبه استمع للأدوار القديمة لمحمد عبد الوهاب، وعشقها كلها، وعلى رأسهم "مريت على بيت الحبايب"، و"الليل لما خلي"، يضيف أحمد "انصرف عنه بعد لجوئه للموسيقي الغربية، محبهاش خالص".
لم تكن حنجرته فقط الذهبية، ولكن أذناه أيضا "كان سميع من الدرجة الأولى"، استطاع تمييز ألحان عبد الوهاب، وسلامة حجازي، وسيد درويش، والشيخ علي محمود، والشيخ صديق المنشاوي، ومصطفى اسماعيل، وأحب أصوات إبراهيم حمودة، وكارم محمود، وعباس البليدي.
دعاء لا إله إلا الله:
يتذكر الحاج أحمد والده بالهدوء والجمال والحلم "نادرا ما يتعصب، كان الكل يحبه ويتمنى ودّه"، إذا جاءه أحدهم سائلا خدمة "من النجمة"، يستيقظ متلهفا وينجز له ما يريد، وأحيانا يعود من سهرته، ليجد أمام بيته أعداد طالبة المساعدة، يعطيهم كل ما معه، ويدخل بيته راضيا مرضيا، "كان زاهدا؛ لم يترك لنا بعد وفاته قطعة أرض، ولا شقة تمليك"، حتى سيارته باعها قبل وفاته بسبب زحام شوارع المحروسة، وملل، ومشاكل.
"كان صادق في كل شيء، حب الله ورسوله، ومناجاته وابتهالاته"، وساعده ذلك على دخول قلوب السميعة بسهولة، يقول أحمد، ولأنه ابنه الأكبر، فكانا متلازمان في كثير من الأوقات، حضر الحاج أحمد مع والده تسجيل بعض الأناشيد، وجلس بجانب بليغ حمدي، ومهندس الصوت، والزجاج العازل بينهما وبين النقشبندي، فوجدوه يخلع عمامته والكافولة، ليقف بالقفطان فقط، ويٌبدع و"يلعلع وكأننا مش موجودين معاه"، وأراح ذلك الكثير من الملحنين الذين تعاملوا معه، مثل محمد الموجي، وسيد مكاوي، أحمد عبد القادر، وعبد العظيم محمد، ومحمود الشريف، وحلمي أمين.
ابتهال نفسي يا رب:
الدرس والبحث عن كل ما هو جديد، والرغبة في إرضاء المستمعين، دائما ما تكون السمات الغالبة على كل فنان حقيقي، فمثلما اتسمت بها أم كلثوم، اتصف بها النقشبندي، فانتقي كلماته بعناية، وتميز، ونبع ذلك من القراءة المتواصلة، واجتماعه بأصدقائه من محبيه في بيته، لساعات طويلة، يقرأون أمهات الكتب، لثلاث أو أربع ساعات، ثم ينشدوا، ويقولوا الابتهالات "الأكل يشتغل، والبيت ميبقاش فيه مكان".
ود البعض أن تكون علاقته بأم كلثوم حقيقية، وتمنوا لو أثمرت عن عمل فني، سيوصف بلقاء السحاب، ولكن لم يكن هناك أي علاقة من الأساس، التقى بها النقشبندي في قاعة المسجد الأحمد بطنطا، وقدم لها الواجب دردشوا مع بعض شوية، واتمنوا يكون فيه عمل مشترك ولكن مع الأسف لم يتم".
مع إنه كان مصباحا مضيئا في منازل المسلمين طوال شهر رمضان، ووسيلة لتسلية صيامهم ونسيان مع روعة صوته مشقة الصوم، إلا أنه غاب عن منزله واولاده معظم الوقت في شهر رمضان، فلم يتذكر الحاج أحمد الكثير من الذكريات التي جمعته واخواته بوالده في الشهر الفضيل، ويرجع ذلك لقضائه إما في إيران، أو سوريا، أو العراق، والسودان، والإمارات، والكويت، والسعودية، بدعوات من وزارة الأوقاف أو أحبابه هناك، والذين كانوا كٌثر في جميع أنحاء العالم.
وقبل شهر من عيد ميلاده الخامس والخمسين، توفي النقشبندي "كانت له كرامة في وفاته"، فلم يمرض، ولم يجهد في الوفاة، فقط شعر بألم في صدره، واتصل بطبيبه إبراهيم عمارة في صباح يوم 14 فبراير 1976، وعندما حضر طلب منه الذهاب لمستشفى المبرة لإجراء البعض الفحوصات، إلا أن روحه صعدت لبارئها.
تابع باقى موضوعات الملف:
بالفيديو والصور- مصراوي يروي قصة محمد عمران.. سلطان "القوالة" من مصر القديمة إلى فلسطين
"جدر" الشيخ طه الفشني.. "يمد لسابع أرض" (فيديو وصور)
بالصور.. مصراوي مع أسرة "طوبار".. حكايات شيخ المبتهلين باقية (حوار)
بالصور: محمد الهلباوي.. أنشد فترك الغرب بلا هوية
بالصور.. مصراوي داخل منزل الشيخ "طوبار".. وجاره القبطي: كان أبويا
بالفيديو: محمود محمد رمضان.. سفير القرآن في دنيا المُنشدين
مُريد على الطريقة الحديثة.. رحلة شاب في حب الشيخ عمران
بالصور: "طوبار" في "الخازندار".. أيامه الأولى والأخيرة في دنيا الابتهال
فيديو قد يعجبك: