لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

البحث عن إبليس!

د.ياسر ثابت

البحث عن إبليس!

د. ياسر ثابت
07:38 م الجمعة 12 يناير 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تُقدِّم القراءات والآراء الاجتهادية خطوة مهمة لرؤية أكثر اتساعًا للكثير من القضايا والموضوعات التي يصنفها البعض في باب المسكوت عنه. ولعل ميزة مثل هذه الدراسات والأبحاث، أنها لا تكرر المكرر في التراث، وتضيء للبشر شيئًا من عتمة حاضرهم، وتسهم في توجيه بوصلة تفكيرهم، وهي في أضعف الإيمان فرصة للاطلاع على الآراء والتفسيرات المغايرة التي أنتجها الفكر هنا وهناك، مما يوسع دائرة النقاش.
من هنا تأتي أهمية كتاب "شِعرية إبليس" (منشورات الجمل، ألمانيا، 2017) الذي ترجمه باقتدار د. رفعت السيد علي، لما يتضمنه الكتاب الضخم (472 صفحة) من مصطلحات دينية وفقهية ونصوص واقتباسات تتطلب جهدًا كبيرًا للعودة إلى أصولها ووضعها في الكتاب.
يبحث مؤلف الكتاب ويتني س. بودمان، وهو بروفيسور في الأديان المقارنة، في معانٍ وقضايا عدة، مع تخصيص جزء كبير من هذه الدراسة لتناول السرد الفكري والديني عن أصل وطبيعة الشر/إبليس والشيطان ونظائرها في السياق القرآني، وهل هناك فرق بين الاثنين، وذلك عبر المقاربة السردية للقص القرآني، مع إبداء الاهتمام بزمان وترتيب نزول مختلف تلك الروايات لقصة إبليس ودلالاتها.
ويدرس المؤلف مختلف التفسيرات القصصية لمنبع الشر وطبيعته، متكئًا على التأويل والتناص بإحالاته الخاصة في القراءة والبحث والتفسير، مع إمعانه في وضع مختلف أنواع التفسيرات والشروح عن الشر.
يرى بودمان أن العلاقة بين إبليس والشيطان قد تكون علاقة تتابع زمني. وباستثناء قصة بستان الجنة، فإن الشيطان يظهر بانتظام بوصفه بلاءً وخصمًا وعدوًا لكل ذرية ونسل آدم وحواء. وبهذه الطريقة، وكما يشير المفكر الهندي فضل الرحمن (1919-1988)، تتضافر وتتشابك وتتداخل وظائف آدم وحواء والشيطان.
وعلى الرغم من اختفاء أي ذِكر لإبليس في النص القرآني في الحياة الدنيا للبشر فيما بعد الخلق، فإنه لم يختف من النصوص البشرية الإسلامية. ونرى ذلك بجلاء من خلال النصوص الصوفية. خارج النص القرآني نستمر في القراءة عن الشيطان، كشخصية من الشر الخالص، وعن إبليس، وهو أيضًا شخصية تمثل الشر – باستثناء حين لا يكون شريرًا تمامًا.
يُعيننا نظام دراسة علم السرد، أو علم القص، على التمييز بين مختلف أنواع القواعد والأدوار في محاضرات الخطاب، توصَّل مايك بال إلى التفريق بين الممثل والشخصية الأصلية التي يقوم الممثل بأداء دورها، وفي هذا المقام يعد الشيطان هو الممثل، المساهم في القصة، الممثل الذي يلعب دورًا، إلا أن ذلك الدور لا ينمو ولا يتطور. وهو تمثيل ثابت ومقيم لقوة الشر.
أما إبليس من جانب آخر، فهو بوجه عام شخصية، ونقطة مركزية ومحورية في قصة، والذي يطور شخصيته ويستجيب لتغير المواقف.
الطريقة الثانية لوصف الفروق بين إبليس والشيطان هي في أنهما يُميزان ويُعبِّران عن شكلين مختلفين ومستقلين من ألوان وأشكال الخطاب والحديث عن الشر. تلك الأحاديث ليست متناقضة بقدر ما هي متممة وتكميلية. خطاب الشيطان يحدد مصدر الشر بكونه خارج الفرد. وبمصطلحات يشرحها الكتاب بتفصيل أكبر، فإن شخصية الشيطان تبزغ بصفة أولية من أسطورة الصراع في منطقة الشرق الأدنى القديم التي تم فيها ترميز الخير والشر، بل تم تجسيدهما، في أشكال وشخصيات متناقضة تناقضًا أبديًا. وفي حالة الشيطان، فقد صُوِّر على أنه العدو الأبدي للجنس البشري. وتمثيله للشر يبدو إجمالًا وبشكل عام دون فضائل تعويضية ولا كفاءة ولا جدارة. كله في جوهره شرٌ محض، وظلام مطلق، وملعون في المطلق أيضًا. لقد كان شرًا على الدوام. وسوف يظل كذلك دائمًا.
وهذا ليس حال إبليس، الذي يتضمن ويعكس سلوكًا إنسانيًا أكثر. كان إبليس نموذجًا لأحد المخلوقات العادية السماوية والتقية، أي مجرد كائن عابد لخالقه. ثم تغيّر. لم يكن هناك شيطان لإبليس، ولا مغو ولا مغر ولا جن يوسوس له ويهمس له في أذنه. ظهوره كأول كائن يعصي الله حدث غير مسبوق وبدون سبب خارجي. لقد تبدّل وتغيّر وتحوّل.
فضلًا عن ذلك، وحيث أن إبليس في كثير من المصادر يُصنَّف من الجن، والذي يمكن له طبقًا لتلك الطبيعة أن يكون خيّرًا أو شريرًا، فإن إبليس يتصف بإمكان مقارنته بدرجة معينة بالحالة البشرية. لقد ضلّ وتبدّل كما يتبدّل البشر ويضلون.
تُوسِّع هذه الدراسة من تلك التساؤلات إلى أوسع مدى يمكن مدها إليه حتى إلى ما يتجاوز القص الصوفي والأساطير المبكرة وصولًا للأعمال المعاصرة الحديثة الأربعة: "رسالة من الشرق" لمحمد إقبال، و"براءة إبليس" (الاسم الأصلي للقصة باللغة العربية هو "جنات وإبليس") لنوال السعداوي، و"أبناء الجبلاوي" (الاسم الأصلي للرواية في اللغة العربية هو "أولاد حارتنا") لنجيب محفوظ، و"الشهيد"، وهي قصة قصيرة لتوفيق الحكيم.
لا يمثل "إبليس" محمد إقبال شخصية تراجيدية، فهو يمثل نمطًا حيث تبدو فيه الأحابيل والشراك الإغوائية التي يضعها إبليس في طريق البشر ممثلة لشخصية ذلك الذي يتصف ببُعدين متعارضين، بُعد سلبي وبُعد إيجابي، لا يوجد شك لدى إقبال أن إبليس يدفع البشر بعيدًا عن طريق الله، وهو يقوم بذلك نتيجة موقف يتسم بكراهية البشر وتحدٍ لإرادة الله. إبليس يمثل لدى إقبال بالفعل صفات الحداثة، والعلمانية المضللة والمغوية للبشر بعيدًا عن درب الروح ومعرفة الله، والتراجيديا ممثلة في البشر المحدثين الذين يخسرون الله بمنتهى السهولة طلبًا للتطور وسعيًا للتقدم.
ويصوّر الكتاب المحدثون من أمثال نجيب محفوظ ونوال السعداوي صورة تراجيدية أصيلة لإبليس، فشخصية "إدريس" لدى محفوظ تواجه الأب في "أولاد حارتنا" (دار الشروق، 2006). ومثل إبليس القرآن، يسائل "إدريس" ويستجوب السلطة، وفي هذا الاستجواب يتنازعه خليط من الدوافع، فمن جهة، لا يريد أن يُهان ويُخزى ويُحقر، ومن جهة أخرى فإنه يرى أن الطغيان والخضوع شيء يستلزم الاعتراض عليه.
وبالمثل، تُبرز نوال السعداوي في "جنات وإبليس" (دار الآداب، 2000) رغبة وإرادة "جنات" في تحدي السلطة الأبوية التقليدية السائدة في ثقافة المجتمع المصري، وهي سلطة أبوية تبرر وجودها باسم وسلطة الإسلام، وبسبب تمردها أعلنوا أنها جُنت وفقدت رشدها واستبعدت من العائلة ومن مجتمعها، وأودعت في مصحة عقلية لا يختلف التركيب الاجتماعي بها كثيرًا عن التركيب الاجتماعي خارج أسوارها، وهنا، ورغم ذلك، أتيحت لها منصة لتعبر عن نفسها قائلة: "أنا غير خائفة،.. ولا أخجل من جسدي".
يمكن لإبليس أن يكون محركًا للإبداع والخلق البشري وصنعة الإنسان، رغم إغواء وإغراء آدم وذريته بعيدًا عن الحُب البسيط لله، ويمكن له أيضًا أن يكون الأخ الأكبر المرفوض الذي وصفه نجيب محفوظ في روايته في شخصية "إدريس"، ويمكن له أيضًا أن يكون عبد الله المخطئ والمستغل من رئيسه كما وصفته نوال السعداوي. إبليس هو أي من ذلك، وكل ذلك معًا أيضًا، بل ما يزيد عن كل ذلك.
تكتسب شخصية إبليس مزيدًا من الشيوع والانتشار خارج نطاق العالم الإسلامي أيضًا، في سلاسل كُتب الخيال العلمي ومسلسلات الخيال العلمي التليفزيونية الأمريكية الشهيرة، و"باتل ستار جالاكتيكا"، واحدة من تلك القصص، ففي قصة "حرب الآلهة"، يقوم القائد "آداما" ورفاقه بمحاربة الكونت الغامض إبليس، وهو في شخصية المخلص ومعه زمرة من الملائكة "الساروفيم" كإخوة له، ويتضح تدريجًا أنه كان ملاكًا متمردًا ومعه تكوينات شنيعة على الأسطول الكوني الذي يقوده، وهو أيضًا يمثل شرًا مرعبًا وشخصية مدمرة في ألعاب فيديو "البلاي ستيشن 3"، "سونيك هيدجهوج" (القنفذ سونيك).

إعلان