لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 الغرباء.. "قصة قصيرة"

د.هشام عطية عبد المقصود

الغرباء.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 02 سبتمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

وجوه تتداعى تمر ثم تثبت فتدركهم ثم مع مرور الأيام تعتاد عليهم في مواضعهم التي لا يبدلونها، حيث يتوزعون على الطرق الرئيسية، في ذات الشوارع التي تزدحم نهارا، صامتين وساكنين يتناثرون فرادى على الرصيف الممتد بين حارتي المرور على طول اتجاهي السير، في مسافات تتوسط بعض المتسولين وبائعي المناديل الذين يتحينون فترات بطء حركة العربات أو غلق الإشارة فيتجولون ليعرضو ما لديهم وهو لا يزيد عن مناديل أو حزم نعناع ذابلة من طول مدة تحركهم بها وعرضها كأشياء ظاهرية للبيع.

أما الآخرون، تلك الوجوه الصامتة غالبا، فهم دوما فرادى لا يطلبون شيئا، ولا مرة وجدهم يتسولون أو يمدون أيديهم نحو العربات، أسمالهم بادية عليهم، أغطية التراب المتجلد التي ترجع لتراكمات طالت تمنحهم تمييزا واضحا يسهل عليه أن يعرفه من بعيد.

هنا في هذا المكان عند استدارة الكوبري يظهر الرجل الذي يكتب جملا باللغتين العربية والإنجليزية على جدار كرتونة صغيرة يحملها أو يعلقها على صدره، دوما في موقعه تماما عند أول المنحنى الهابط إلى الشارع، خلفه متحف قديم يتموضع هنا صيفا ويتحرك إلى أعلى الكوبرى ليكون في منتصفه ثم في اتجاه الجزء الأيمن المطل على النادى هكذا طوال موسم الشتاء، جميعهم يتحركون عكس اتجاه الريح وخلف تيارات الهواء العاصفة والمتربة أحيانا، كأنهم يعلنون اختلافا كليا يمتد إلى التعامل مع الطقس، يفكر أنهم ربما يكون لديهم إحساس عكسي بدرجات الحرارة وقد صار الآن من طبيعتهم، لا يسعى لفهم أكثر.

هذا متوسط القامة والأكبر سنا، والثاني على ذات الامتداد في اتجاه الطريق نحو وسط المدينة، يتحرك ذهابا وإيابا في مسافة لا تزيد عن خمسة أمتار لا تنتقل به أبدا خارج مساحة الطريق المستقيمة، هو ليس مؤديا صامتا كسابقه، يهرول في ذات الأمتار أحيانا، ويخاطب دائما شخصا ما لا يظهر أمامه قط ما وفي كل الأحوال بغضب وبتلويح عنيف بيديه، أيضا لا يطلب شيئا بل إن سلوكه سيكون طاردا لمن يفكر في أن يمنحه أى شيء، أحيانا يتخير سيارة ما ويتوجه نحو سائقها بغضبه الشفاهي المنفعل، ثم لا يزيد عن ذلك، وربما يضيف حركة قبيحة بأصبعه، يستيقظ الوعي حادا لديه إذا في تلك الحركة البذيئة، كأنه يذكر نفسه بالمعنى حتى لا يذهب مع أشياء غابت عنه، يصنع حالة درامية متعددة السلوك، فهو يمكنه أن يجلس متمددا على الرصيف حينما تكون بيديه سيجارة وهو ينفث دخانها مستغرقا، يشبه من يصك قانونا رياضيا معقدا بهدوء فريد، لا أراه أبدا يأكل شيئا، لكن يحدث أن يبول في اتجاه أهداف غضبه، لا يضايقه أحد ولا يحول بينه وبين ما يفعل شيء.

وكبندول يهز هذا الرجل السمين رأسه بقوة تبدو محيرة ثم يهدأ تماما كأنه يأخذ نفسا وليواصل مرة أخرى، ويقوم رافعا رأسه ثم يميله عامدا ويعود ليتحرك برأسه بسرعة في الاتجاهين كأنه يتابع هدفا واحدا يتحرك أمام عينيه ذاهبا وعائدا، ثم يجلس ووجهه نحو الطريق، يتخير بقعة مخضرة يجلس هادئا عليها على ذات الرصيف الممتد كيلومترات، بقربه يجلس أيضا أحد عمال التشجير، لا يحادثه وفقط كأنه يسبغ عطفا ما صامتا وبعض الونس.

كان المنديل الورقي في يدها والحقيبة السوداء المعلقة على كتفها، ثم الملابس الداكنة البسيطة في غير تهدل تؤكد إنها إحدى الموظفات التي خرجت توا من مصلحة أو هيئة ما وتغادر مسرعة نحو بيتها، نظارتها الطبية تضفي تأكيدا على ذات الدور، هى تشير عدة مرات إلى السيارات القادمة، يظن أنها تجازف بتحركها غير المحسوب لتوضح نفسها لباص قادم فربما يتفهم السائق فيهدئ من حركته لينتظرها على جانب الطريق، لكنها لا تزال واقفة فى مساحة الرصيف الأضيق ذاتها وتشير نحو العربات القادمة، تشير وهى تتحدث ببطء ووهن معا، ممسكة بذراع حقيبتها السوداء على كتفها، وتواصل ما تفعله فى استغراق كبير، يمر عليها الذين يعبرون فى الاتجاهين دون أن ينظروا نحوها، ربما يألفونها وهكذا يفكر، يقترب منها فيراها تتوثق من مكان حقيبتها على أعلى كتفها وتتمتم شيئا ود لو سمعه عبر شباك العربة المفتوح، ينظر نحوها مليا لكنها لا تراه، عيونها تتحرك بسرعة ولا تثبت، فجأة تنظر للأمام ثم ترفع يدها ملوحة في اتجاه العربات القادمة.

إعلان