إعلان

يجب أن نزرع حديقتنا

د. أحمد عمر

يجب أن نزرع حديقتنا

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 10 يوليو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

ليس هناك أجمل من أن يُحقق الإنسان ذاته، ويُفعّل مواهبه وإمكاناته، ويبني مشروعه المالي والمهني الشخصي أو مجده العلمي والأدبي، وهو في سن الخمسين أو بعدها بسنوات قليلة، ثم يبتعد عن الحياة المهنية والعامة - بعد توفير حد معقول من الأمان المادي - ليعيش حياته الشخصية بهدوء، ويستمتع بصحبة مَن يُحب، وبفعل كل ما يُحب، بلا ضغوط مادية أو صراعات مهنية أو الاضطرار للدخول في سياقات مُهدرة للعمر والأعصاب والجسد، ومعارك صفرية تبدد إنسانية الإنسان وحياته بلا طائل.

هكذا فعل الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي الشهير "وليم شكسبير" الذي حقق في عصره مجدًا أدبيًا لم يصل أحد إليه من بعده، ثم عاد وهو في سن التاسعة والأربعين عام 1613 لقريته الريفية (ستراتفورد) التي شهدت مولده ونشأته الأولى، ليعيش في سلام عيشة هادئة منعزلة مع أحبائه وأصدقائه، حتى جاء أجله بعد تلك العودة بثلاث سنوات عام 1616.

وأظن أن تلك النهاية، قد مثلت قناعة خاصة أيضًا للفيلسوف والكاتب الفرنسي الشهير فولتير (1694 – 1778)، الذي قضى الجزء الأكبر من عمره في صراع مع السلطتين السياسية والدينية في عصره، ومنفيًا بعيدًا عن بلاده، وكان أحد أهم ملهمي الثورة الفرنسية التي غيرت وجه الحياة في فرنسا وأوروبا.

وقد عبر فولتير عن قناعته هذه في روايته الفلسفية القصيرة الشهيرة (كانديد) التي كتبها عام 1759، عبر المقولة التي جاءت في نهاية الرواية على لسان بطلها كانديد، عندما قال في ختام حواره الفلسفي مع الدرويش التركي: "يجب أن نزرع حديقتنا".

هذه المقولة تعني ضرورة أن يتوقف الإنسان عن إرهاق عقله وروحه بالأسئلة الوجودية والفلسفية الكبرى، التي قد يصُعب الحصول على إجابات شافية لها، وأن يبتعد عن المعارك والصراعات المختلفة، وكل أشكال هدر العمر، ليفعل بسلام ما يُحب، ويزرع حديقته الموجودة في فناء بيته، ويجني ثمارها بشكل مباشر، فيعرف أن الحديقة الصغيرة تُعطي ثمارًا كثيرة، إذا تم الاعتناء بها جيدًا، فيفرح، ويرضى برؤية الحصاد المباشر لجهده وعمله.

كما يُمكن أن نجد في تلك المقولة دعوة للإنسان في مرحلة معينة من عمره، لكي يزرع حديقة روحه وعقله، ويعتني بها ليعيش في طمأنينة وسلام واستمتاع، ويجعل الحياة مُحتملة بقدر الإمكان.

ومن المؤكد أن هذا الخيار الوجودي لكل من شكسبير وفولتير هو خيار نابع من عظمة وروعة الإنسان فيهما، وتمتعهما بفضائل إنسانية كثيرة، مثل القناعة والقدرة على الاكتفاء والاستغناء والزهد المادي والعقلي، والرغبة في الاستمتاع بحياة لا يعيشها الإنسان سوى مرة واحدة.

وهو خيار جدير بأن نتأمله بدقة، ونتعلم منه، ونقارنه بخيارات بعض الحمقى من البشر الذين يقضون عمرهم في صراعات مستمرة، ولا يعرفون فضيلة الاكتفاء ولا الاستغناء، ويُريدون الحصول على كل شيء، والوجود في صدارة المشهد للأبد، وكأنهم آلهة مخلدون، ثم يكتشفون عند نهاية أعمارهم أن حديقتهم وحياتهم قد صارت متصحرة قاحلة، لا سعادة فيها ولا زرع ولا ثمر.

إعلان