إعلان

مد البحر وصداه.. "قصة قصيرة"

د.هشام عطية عبد المقصود

مد البحر وصداه.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:23 م الجمعة 02 يوليو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أيام كثيرة وأعوام توالت صار لايفكر فى عددها، لكنها كانت كافية لتؤكد ما عرفه وتأكد بعد ذلك .. لكنه صار هكذا يقول ربما مبررا لنفسه: إنها التقاليد التى سار عليها البشر كما أنها غربة الحياة ونحن نظنها سكنا ثم غواية اللحظات تلك التى تأخذنا بعيدا عما يُطمئن أرواحنا.

كان صوت الموج يأتى منفردا يرتقى عاليا قبل الوصول الى الشاطئ لينفصل متفردا عن مزيج أصوات المارة وبعض الأغانى التى تنطلق من مقهى مجاور، كان البحر فى هذا المساء المتأخر يفرد مساحة أحباله الصوتيه عن آخرها يسمعها سائغة وهو يعبر الطريق فى اتجاه الرصيف القصير الذى تبللت واجهته بالماء.

أضواء بعيدة كدوائر صغيرة شاحبة تبدو ثابتة لا تتحرك فى عمق البحر، يتحرك هو بامتداد الرصيف بحثا عن موضع ملائم ليجلس، يجد الباب الزجاجي لمحل البقالة المواجه يتسلل منه ضوءا أصفرا، يعبر الشارع فى الاتجاه الآخر، ويدخل اليه يشترى بسكوتا وعلبة ثقاب، ويعود إلى رصيف البحر، يمشى مستمتعا ببرودة أحسها ودودة.

على امتداد الطريق الخالى من المارة وبينما يتابع سير البحر بموازاته مظلما سوى من خيوط نور بعيدة تختفى وتظهر، يحس بأنه عاش هنا منذ زمان لا يعرفه، وأنه يحمل نفس عمر تلك الحوائط العتيقة للبيوت التى يمر بها، كأن المكان من صنعه وشهد على بداياته ويخصه تماما، صار منذ قدومه يألف الشوارع بتعرجاتها المطلة على البحر والمفضية إليه، حتى الصوت الهادئ لبائعى السمك فى الصباح حين يهلون متتابعين يقودون عربات خشبية صغيرة ويتجمعون فى ركن قريب لعدة ساعات نهارية ثم يرحلون.

يسير مستمتعا بالتلصص على لون ورائحة السمك الصغير الفضى كل صباح، ودون أن يفكر فى أن يقترب أكثر، يبدو شهيا ومبهجا، يفكر دوما أنه ذات يوم قادم سيقف حتما ويطلب شراء بعض تلك الأسماك الصغيرة فقط لينظر إليها عن قرب وربما ليعيدها إلى البحر، أحب ذلك وعزم على أن يفعله.

تبدو الحياة فى تلك المساحة الصغيرة من العالم وقورة فى الليل، يذهب بعض قاطنيها الى مقاهي قليلة متاحة متشابهة فى بساطتها وما تعرضه، تختلف فقط فى مكانها وبعض واجهاتها، حيث تصير أكثر جمالا فى تلك الناحية الأخرى من المدينة أو عند انتهاء رصيف البحر، هنا يظهر مقهيان حيث يمكن أن تجلس ملامسا ماء البحر إن أردت.

له هنا خمسة أيام تمر سريعا فى عمل يأخذ كل مساحة النهار، وأحاديث تليفونية تقتطع ساعات أخرى من المساء البطئ، يتذكر كيف كان حلمه المبكر هينا تماما، لا يعرف كيف لم يتشبث به وكيف لم يتابع تحققه، تخيل نفسه دائما معلما فى مدرسة فى قرية صغيرة بعيدة عن العمران فى مكان نائي، حيث مرت على عقله حينها مشاهد لبشر يحيون على فطرتهم أو يكادون، وحيث يمكنه أن يمنح شيئا نافعا واضحا لا لبس فيه ولا تساؤلات ولا إشكالات، كان سيأخذ معه كل ماتجمع فى مكتبته الصغيرة التى صارت تكبر كل يوم، سيأخذها معه ويذهب بكل ذلك الى المدرسة التى سيعمل بها معلما، يقرأ مع التلاميذ الصغار ويصنع دهشتهم بالعالم.

لم يدرك وقتها جذور هذا الحلم، حين كبر ولم يقارب حلمه وفى مرحلة عمرية كان ينظر الى الحلم باستغراب ومحاولة للنسيان، أدرك تلك الجذور، كانت تلك السعادة العظيمة التى تملأ وجه والده وهو يحكى عن أول تعيينه كمعلم فى إحدى قرى الصعيد البعيدة أول ستينات القرن الماضى، كان يجلس فى مساءات كثيرة يستنطقه ويطلب منه تكرار تلك الحكايات عن القرية البعيدة فى الصعيد والتى سافر إليها، يسمع حكايات عن المدرسة وعن الطعام وعن عادات الناس والسفر والقطار وأصوات المنشدين، وكان يحضر زيارات تلاميذ والده القدامى إليه بعد سنوات طويلة من عودته، ويتابع تلك الصور بالأبيض والأسود والتى كان تلاميذ أبيه يقفون الى جواره.

تشتد برودة الجو وتتصاعد أصوات الموج وتتبدى السماء أكثر وضوحا، يجذب كرسيا ويخلع حذائه ويقترب لتلامس قدماه مد الموج، يقول شيئا هامسا كأنه ينادى طيفا ما مر بينما العامل يضع كوب الشاى الزجاجى الساخن على منضدة صغيرة عالية فى متناول يده.

إعلان

إعلان

إعلان