إعلان

تنفيسة| «غاندي».. الحكيم الثائر (3 – 3)

محمد جادالله

تنفيسة| «غاندي».. الحكيم الثائر (3 – 3)

محمد جادالله
07:21 م الإثنين 10 فبراير 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


نادى غاندي بإلغاء التمييز العنصري، والتفرقة الدينية، وحث أمته على تعلم لغتها، ورمى كل ما له علاقة بالإنجليز من لغة وبضائع وقوانين وألقاب ومعاملات، ومدارس أيضًا. وقاد الفلاح وعلمه، وآزر العامل وحصّنه، وساند المرأة وأنزلها إلى حقل العمل، ونظر إلى المعلم بعين المصلح المربي. وسنلتقي في مقالنا هذا مع صيحته نحو التعليم، فكانت صيحته مدوية ولها ثقلها من الناحية التربوية. فكيف جاءت آراؤه التربوية؟
عزيزي القارئ في سنة 1935م صدر للهند دستور جديد، أعطيت الولايات الهندية بمقتضاه شبه استقلال داخلي. وكان نشر التعليم وتعميمه على رأس الإصلاحات التي رأت الولايات أن تضطلع بها، غير أن تدبير المال اللازم كان يقف حجر عثرة في هذا السبيل، لأن انتشار الفقر بين الأهلين وقف حائلًا دون التفكير في زيادة الضرائب. وهنا أخذ غاندي يروج لفلسفته التعليمية التي تمكن الهند من مواجهة هذه المشكلة، وقد نشر مقالًا سنة 1937م يشرح فيه فكرة جديدة في التعليم الأساسي ووسائل تعميمه؛ ولقيت الفكرة ترحيبًا كبيرًا في دوائر الهند التعليمية، وتناولها الباحثون بالبحث والدرس.
وتتخلص فكرة غاندي في أن "التعليم الأساسي" الريفي في الهند – قصد غاندي بعبارة "التعليم الأساسي" المرحلة الأولى من التعليم، ويعني بها ذلك الحد الأدنى من التعليم الذي يجيب أن يناله كل مواطن – يجب أن يرتكز على أسس ثلاثة، إذا أردنا أن يحقق الغاية المرجوة منه. وهذه الأسس هي أن تكون لغة التعليم في هذه المرحلة اللغة القومية، وأن تكون محور الدراسة تعلم الحرف المناسبة للبيئة، وأن تدفع مرتبات المعلمين من بيع ما ينتجه التلاميذ.
وكان يعني بالتربية هنا أي استخراج خير مكنونات الطفل استخراجًا شاملًا متكاملًا من حيث كل من الجسم والعقل والروح. ولهذا جاء مشروع غاندي بأن تكون التربية الصحيحة هي القائمة على طريق التدريب السليم لأعضاء الجسم وأعني بذلك اليدين والقدمين والعينين والأذنين والأنف ألخ. وبعبارة أخرى، فإن استغلال أعضاء جسم الطفل استغلالًا سليمًا يزوده بأحسن الطرق وأسرعها لتنمية ذهنه.
وقد نوقش مشروع غاندي في المؤتمر التعليمي الذي عُقِدَ بمدينة "ورضا" بالهند في أكتوبر سنة 1937م، ووافق المؤتمر على أسس المشروع. وكان من أهم قراراته أن تكون مدة الدراسة بمرحلة التعليم الأساسي سبع سنوات، وأن تكون نواة الدراسة في هذه المرحلة خرفة مستمدة من بيئة التلاميذ، وأن تجتمع باقي مواد الدراسة وأوجه النشاط الأخرى في المدرسة حول هذه النواة. وتألفت لجنة برئاسة علم من أعلام التربية في الهند، وهو الدكتور زاكر حسين، لدراسة تفاصيل المشروع وتقديم تقرير عنه؛ وقد عالجت اللجنة الموضوع في تقرير مسهب، نُشِرَ في شهر ديسمبر من تلك السنة.
وقد أوردت اللجنة في تقريرها كثيرًا من المبادئ التربوية الهامة، التي يجدر التنويه بها والإشارة إليها؛ ومن ذلك ما اقترحته من أن تبدأ مرحلة التعليم الأساسي من السنة السابعة وتنتهي في الرابعة عشرة. وذكرت في هذا الصدد أنها كانت بين أمرين: فإما أن تقترح بدء المرحلة في نهاية الخامسة أو السادسة كما جرت العادة على أن تنتهي في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، وإما أن تقترح بدأها متأخرة كما تقدم. غير أن مغادرة التلاميذ المدرسة في سن مبكرة فيه خطر كبير عليهم، ومن غير المرغوب فيه أن يترك التلاميذ فيما بين الثانية عشرة والرابعة عشرة دون رعاية معلميهم؛ فهذه الفترة من العمر من أدق الفترات في حياة المراهقين، وإخراجهم من المدارس في أثنائها يعرضهم أضرار اجتماعية جسيمة. لهذا آثرت اللجنة أن ترفع سن الدخول إلى السابعة، حتى يمكن استبقاء التلاميذ إلى الرابعة عشرة. وماذا عن تعلم الحرف كما أشار لها غاندي في مشروعه؟
صديقي القارئ أما فيما يتعلق بتعليم الحرف في هذه المرحلة، فقد يبدو غير مألوف، وقد ينطوي على كثير من المهارات أو المشاق التي لا يطيقها الأطفال. كما أن اعتماد المعلمين على بيع ما ينتجه التلاميذ قد يؤدي إلى تسخير التلاميذ وإرهاقهم، وإلى تحويل المدارس إلى مجرد مصانع يفيد منا المعلمون. ولكن الفكرة في ذاتها جليلة إذا فهمت وطبقت على وجهها الصحيح. فالتعليم الأساسي يجب أن يرتبط بالحاجات الأساسية للأطفال؛ ولا شك أن من أولى الحاجات الأساسية للإنسان إشباع رغبته ونزوعه إلى العمل الإبداعي المنهج؛ والحرف – باعتبارها من أهم مظاهر الثقافة في البيئة، ومن أهم مقومات حياة الجماعة – هي خير مجال لهذا العمل.
كما أوضحت اللجنة في تقريرها أن الاتجاهات الحديثة في التربية مجمعة على شيئين أساسيين، هما: ضرورة تعويد الناشئين العمل المنتج، وضرورة جعل منهج الدراسة متكاملًا ومبنيًا على خبرة التلاميذ. فالأطفال يعانون كثيرًا من الدراسات النظرية التي تفترض عليهم، ومن الأفكار المجردة التي تقتحم على عقولهم، لأن ذلك خالف طبائعهم، وهم في أشد الحاجة إلى العمل المنتج، الذي تتضافر فيه عقولهم وأيديهم وقلوبهم. وماذا عن الغاية من ذلك المنهج؟
عزيزي القارئ إن غاندي لم يفكر في جعل تعلم الحرف غاية في ذاته، بل وسيلة لتكامل المنهج، ونواة تتجمع حوله الدراسة. مصداقًا لقوله: "إن تعليم الحرف الذي أدعو إليه يجب ألا يكون آليًا كما هو متبع الآن، بل يجب أن تدرس الحرف بطريقة علمية، أي يجب أن يعرف التلميذ في كل خطوة لماذا وكيف يقوم بهذه الخطوة".
على أن لهذه الفكرة أثرًا اجتماعيًا كبيرًا، ففيها قضاء على التفرقة بين العمل اليدوي والنظري، أي بين النظرية والتطبيق، وفيها إعلاء لشأن الحرف والمشتغلين بها، كما أنها تضع أساسًا لترقية الصناعة والإجادة فيها، وهي في الوقت نفسه نوع من التربية لأوقات الفراغ.
وفي الختام، الحديث عن غاندي يطول ولا تكفيه مقالات، ولكن في هذا الكفاية لمن سبقت له العناية. لم يكن غاندي للحظة واحدة، باحثًا نظريًا بعيدًا عن الحياة، وإنما كان دائمًا الإنسان المرهف الروح الذي يحس بكرامة الإنسان في كل مكان، ويسعى عن طريق الكفاح الصامد الصامت إلى استغلال الألم، ألم مواطنيه، ليلقبه باللاعنف نصرًا: "إنني أتوقع أن أهزمكم بآلامي". لقد آمن بسمو الحقيقة وبسمو الروح. فكانت قضيته التحرر من الخوف، التحرر من القمع، التحرر من الاستبداد، وتكشف سطور حكمته قدر هذا الإنسان البسيط، فكان ولازال الحكيم الثائر.

إعلان

إعلان

إعلان