لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

تماثيل محرمة

د. جمال عبد الجواد

تماثيل محرمة

د. جمال عبد الجواد
08:53 م الجمعة 12 يونيو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هذه التماثيل تمثل اعتداءً على مبادئ الأمة. هذا هو ما قالته رئيسة مجلس النواب، الديمقراطية نانسي بيلوسي، في إشارة إلى تماثيل لرموز تمثل الجنوب الذي حارب ضد إلغاء العبودية في القرن 19 أثناء الحرب الأهلية الأمريكية التي خسرها الجنوب. السيدة بيلوسي تتحدث عن 11 تمثالاً لرموز الكونفدرالية الجنوبية موجودة في إحدى قاعات الكونجرس الأمريكي، وعن العشرات من التماثيل المماثلة المنتشرة في مدن أمريكا المختلفة، التي بات مصيرها مجهولاً، بسبب حملة تحطيم الأصنام التي تجتاح أمريكا هذه الأيام.

المتظاهرون المحتجون ضد مقتل الأمريكي الأفريقي جورج فلويد على يد رجل شرطة أبيض انتقلوا من مرحلة التظاهر ضد عنف الشرطة، إلى مرحلة إزالة رموز مرحلة العبودية. هناك العشرات من التماثيل والبلدات والشوارع والجامعات والقواعد العسكرية تحمل أسماء لهؤلاء، وإزالتها تمثل إعادة صياغة لوجه الحياة الأمريكية، وإعادة كتابة لتاريخها، وهذا هو ما يستهدفه المحتجون.

القضية تبدو بسيطة وأخلاقية بسبب موقف هؤلاء من العبودية؛ لكن الأمر أكثر تعقيدًا مما يبدو عليه. حملة إزالة التماثيل لا تقتصر على قادة الكونفدرالية الجنوبيين، فأهداف القائمين على الحملة تبدو بلا حدود، حتى أنهم أسقطوا تماثيل لكريستوفر كولومبس في فيرجينيا وبوسطن ومينيسوتا. كولومبس هو أول أوروبي يضع قدمه على القارة الأمريكية، وهو الرجل الذي منح القارة كلها، والولايات المتحدة بشكل خاص، اسمها. لم يتاجر كولومبس في العبيد، ولم يحارب من أجل إبقائهم في العبودية، لكنه متهم بالمسؤولية عن الحروب التي خسرها السكان الأصليون، ومات فيها الكثير منهم؛ لتقع أراضيهم في النهاية في يد المهاجرين الأوربيين. وصل كولومبس إلى القارة عام 1492، أي قبل أكثر من خمسمائة عام، لكن لدى الثوار ذاكرة حادة، لا يسقط منها شيء بالتقادم. قبل خمسمائة عام كان هناك الكثير من الأشياء التي لا يمكن قبولها اليوم، لكن لا يجوز محاكمة الماضي بمعايير الحاضر، لكن الثوار لا يحبون هذا النوع من الحجج.

حملة إزالة رموز العبودية تهدد ميراث أسماء صنعت أمريكا الحديثة، مثل واشنطن، وجيفرسون وجاكسون، فهؤلاء الآباء المؤسسون لأمريكا الحديثة كانوا أيضا من ملاك العبيد، وهناك المئات من البلدات والمدارس والشوارع تخلد أسماءهم، فيما يطالب الثوار بضمهم لحملة إسقاط الرموز. الثوار مصرون على تطهير أمريكا من كل النجاسة التي تمثلها تماثيل المكتشفين الأوروبيين وتجار العبيد وقادة الكونفدرالية، وكل من تورط في العبودية والحرب ضد السكان الأصليين، وكأنهم يسعون لإعادة صياغة التاريخ من جديد.

لا أشعر بالارتياح إزاء محاولات الانتقام من التاريخ ورموزه، فسلبياتها تفوق كثيرًا أي إيجابية تنتج عنها. أشاهد ما يفعله الثوار بالتماثيل في أمريكا، وأتذكر تماثيل رفعت من ميادين مصر، وشوارع تغيرت أسماؤها بسبب صراعات السياسة. أتذكر ما حدث قبل أقل من عشرة أعوام عندما أخفى السلفيون والإخوان التماثيل بالأغطية، وعندما تم تشويه تماثيل أخرى، بنفس منطق القضاء على النجاسة وتصحيح العقيدة والتاريخ. مقاومة العنصرية قضية حقيقية، لكن إعادة كتابة التاريخ وفقا لتحيزات السياسة يشوه وعي الأمم بتاريخها، فلا هو يغير الماضي ولا يخدم المستقبل.

إعلان