إعلان

لا شيء هناك .. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود

لا شيء هناك .. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
08:58 م الجمعة 12 يونيو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هل ضاقت حقًا كل فضاءات الأرض بكل تلك الضحكات الصاخبة المتتالية فأرسلتها إلى السماء لتبقى هناك؟ قلت هذا وأنا أعرف شيئًا لا يبعث على الدهشة كثيرا.. مات مهدي.

كانت تلك الحكايات القصيرة المبتورة التي يقصها أخي عنه مؤخرًا عندما يأتي إلى منزلنا لا تتماشى أبدا مع مهدي الذي عرفت، يأتي صامتًا ذاهلاً، يجلس؛ لتناول ما يوضع أمامه من طعام متاح ويرفض أخذ أي نقود، لكنهم عرفوا مع الوقت ما يمكن أن يقبله، فقط علبة السجائر الكليوباترا، يجلس قليلا ويمضي.

كان أبي يحنو عليه كثيرًا، وقد أحب أبي وظل يتودد إليه ويزوره حتى أيام أبي الأخيرة، قالوا إنه لم يكن يزور الناس كثيرًا، ويكتفي بالمضي في الشوارع حتى يجهده التعب فيعود إلى منزل أسرته، عرف أبي كيف يصنع دائرة حوار صغيرة معه كبرت مع الوقت حتى لم يعد يأنس سوى بأبي، وانتهت بوفاة أبي، ثم لم يعد قط.

يجلس صامتًا مأخوذًا تائهًا، فلا يحاول أبي أن يزعجه، لكن يدلف إلى نفسه بحنو وهدوء، أتابع أبي محبًا يصنع حوارًا معه فيرد مهدي بكلمات فرادى متناثرة.

عرفت مهدي صغيرًا، يكبرني بأعوام قليلة، يأتي مع والده الذي تخصص في أعمال حرة، وكانت تجمعه بوالدي صداقة مدها أبي مع من حوله بصبر فبقيت، وأحيانًا ما كان أبي يستعين به في أعمال يراها ملحة فيترك ما لديه ويسرع، وفي أيام العمل، وحين يتأخر موعد قدومه يومًا، فورًا يرسم أبي لي خريطة بيتهم البعيد وأذهب، فيتلقاني الأب مرحبًا ويصر على تناول الإفطار مع الأسرة الكبيرة، أجلس وأهب طاقتي الكاملة لأقراص الطعمية الساخنة من بائعة مجاورة تفترش الشارع بأوانيها وموقدها، ترش أقراص الطعمية بسمسم محبب، ثم طبق الفول الكبير والأرغفة الساخنة التي حملها أحد الأبناء من الفرن البلدي .. بعدها يأتون معي لاستكمال العمل في منزلنا.

تفرغ أشقاء مهدي للتعليم وصار هو تقريبًا الذي لم يكمل تعليمه، متفرغًا لعمل خاص كبر معه، يقول والده عنه في حوارات قديمة أولى مع أبي إنه "مش نافع تعليم"، ثم بعد ذلك إنه أيضًا الأمهر في حرفته من بين كل أبنائه وأحيانا ما يقول هو "الأطيب".

أتذكر زمنًا واضحًا، حين كلفني أبي بمتابعة عملٍ يقوم به لنا في البلدة البعيدة، أتذكر العمل نهارًا والتنقل إلى المدينة الكبيرة المجاورة مساء لشراء طعام العشاء، ودخول السينما، والعودة في آخر القطارات ليلاً.. أتممنا العمل وظهرت الملامح لمنزل جديد يتوسط مساحة كبيرة ممتدة من الخضرة.

مضت سنوات حملت الجميع نحو مشاغل كثيرة، وفي زيارة من أحد أفراد تلك الأسرة إلى أبي تأتي سيرة مهدي الذي سافر للخارج وعاد، ثم سافر، ثم أخبار أنه أنشأ تجارة كبيرة وتتوالد حكايات الثراء الواسع عنه.. ولكنها تنفض فجأة، ماذا؟ لقد خدعه البعض حتى صار معرضًا للسجن.

ضاقت مساحات حركته كثيرًا، وتغيرت ملامحه، ولم يعد يجيد سوى الصمت والنظر في الفراغ وتدخين ما تيسر من السجائر، وأخيرًا قرر أن يذهب بعيدًا إلى بلدة صغيرة يعيش من أعمال ينخرط فيها بلا ضجيج، وحيث من لا يعرفه، ربما يحاول أن يزيح ما تبقى من ذاكرة من يعرفهم في خياله، يعمل أشياء صغيرة في صمت، يشرد أحيانا، ولكنه ظل يواظب على زيارة أبي كلما حضر إلى المدينة، وأتحاشى حينها أن أكون متواجدًا، أتوارى لو حضر في وجودي.. أتابعه بعد أن يخرج من المنزل ظلا باهتا يمضي.. لا يعرفه أحد.. غريبًا يمضي.

إعلان

إعلان

إعلان