لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 مشاهد ما قبل المونتاج.. "قصص قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود

مشاهد ما قبل المونتاج.. "قصص قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 11 ديسمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

1/ كانت شمس منتصف نهار القاهرة تتعامد بقسوة على أول كوبري أكتوبر بينما تمتد أمامه صفوف العربات كدودة ملتوية بلا نهاية وشيكة، تنتظم في طابور طويل ملتصق بحيث تبدو من بعيد جدًا كمكعبات لعب الأطفال الملونة، أسند رأسه إلى مسند مقعد السيارة وأرجع الكرسي كله إلى الوراء قليلا، أدار مؤشر الراديو كان صوت إسماعيل ياسين ينطلق في مونولوجه: كلنا عايزين سعادة.. قوللي يا صاحب السعادة.. قوللي قوللي".

2/ كانت دوما تذكره أمه بالبداية نفسها، فعندما تبدأ بالحديث عن العربة الداتسون الصفراء التي أقلتها إلى المستشفى البعيد، يعرف أن عامًا آخر من عمره قد انقضى، بينما يحاول أن يتذكر شيئًا ما يدركه نسيان أو تتشابه عليه الوجوه فيستسلم لصمت أو يرسم ضحكة على شفتيه، بينما التفاصيل نفسها تنساب على مهل جملًا متناغمة مهدهدة، بينما عيون أمه تحتويه كاملًا، حتى ينتبه كلية لجملة الختام: أرسلت لأبيك تلغرافا ثم تتنهد مضيفة: "وقتها كان لسه مدرس أرسلوه ليعمل في الصعيد".. مع الوقت اختفت أشياء كثيرة بل كل تلك الحكاية المعتادة، والتي صار هو ممعنًا يستعيدها كأنه يستبدل صوت الراوي المحب الذي رحل ثم يرهقه ذلك فيدرك أن القصة قد أصبحت عصية على التكرار، ويفكر داخله أنه ربما حان الوقت؛ لينسج هو قصة يرويها.

3/ أبوه لم يجلس أبدًا على مقهى، ولم يدخن السجائر، وأحب هو الحياة تأملًا وبراحًا فارق كثيرًا وقائعها فأرهقته وأرهق والده معه، اختلف معه بعناد طفل كأنه يؤكد فرديته في مواجهته، ومع الوقت –صانع الأساطير والدهشات- صاره وتمثله، وبينما تمضي السنوات به يدرك يقينًا أنه هو أبوه تمامًا، لم يعد ينتظر كلمات مقربين مؤكدة على ذلك، هو أبوه وتترسخ داخله كل التفاصيل والعلامات تتهادى على مهل فتثبت، حتى أنه وقبل وقت طويل من غياب أبيه، كانا قد اتفقا في كل شيء.

4/ يفضل دائمًا أن يعبر يوم ميلاده هينًا بلا ضجيج، يتناوبه قلق متنوع الأوصاف قبل ذلك التاريخ بأيام طويلة لا يعرف السبب ثم فجأة يتذكر، يفر منه أو يتشاغل عنه قائلًا؛ للتخلص من ارتباك ما إنه مجرد رقم عادي منحته البشرية دلالة ما في سعيها لرقمنة الحياة، هكذا يتجاهله ويبعده ثم ينساه ويحث كل من حوله بإشارات عديدة وإيماءات ملحة أن يفعلوا، لم يجلس؛ ليفكر في سبب ذلك كثيرًا، أو حقا هو لم يرد أن يضع السبب ظاهرًا أمام عينيه بوضوح، فقط يمارس إحساسه ويكتفي برصد مرور السنوات بمقياس كم شغفه وتعلقه بالأشياء والبشر، ويعتبرها العلامة الصادقة على مرور السنوات، مؤشره الذي لا يخطئ.

هذه المرة أراد أن يستعيد عامًا قديمًا وسار على خطى ما جرى فيه، يمشي مبكرًا نحو المكتبة الكبيرة القابعة أمام النهر، حيث تصطف مقاعد حجرية فارغة سوى من قطرات الندى، وقبل أن تفتح المكتبة التي كان يقصدها أبوابها، ينتظر عربات الكارو التي تأتي في هذا الطريق لتستقر في سوق الخضراوات الصغير القابع خلف المبنى، وعندما تلوح إحدى العربات في طريقها متجهة إلى السوق، يستوقفها ويطلب من البائع خسًا، يأخذ خستين معًا، يغسلهما ثم يتأمل سعيدًا حيث يتبدى فيها بياض شفاف يتوسط أوراق خضرتها الفاتحة، يمضي في أكلها متلذذًا، حتى يحين وقت فتح المكتبة، يعرف ذلك من إزاحة الستائر التي تغطي زجاج الشرفة العلوي المطلة على الشارع والنهر، يصعد السلالم العريضة القديمة في سرعة، ويأخذ مقعده في مواجهة السماء والنهر، يقول: كم يبدو الصباح طيبًا ومتصالحًا تمامًا.

إعلان

إعلان

إعلان