لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"مناسك الخوف".. رواية بطعم الحياة

د. ياسر ثابت

"مناسك الخوف".. رواية بطعم الحياة

د. ياسر ثابت
09:00 م السبت 12 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تسدُ "مناسك الخوف" تلك الفجوة الهائلة التي تفصل بين ما نتخيله عن الريف المصري، وما هو واقعٌ معيش.

بعينين حائرتين بين الضحك والبكاء، يلتهم القارئ صفحات الرواية الملحمية بمعنى الكلمة! ليكتشف عالمـًا كاملًا من الريف الحقيقي تنجح الروائية سلوى محسن باقتدار في رسم ملامحه، لتستخرج الكثير من مخازن "المسكوت عنه".

في تلك الرواية شبه الوثائقية الصادرة عن دار "الأدهم" (القاهرة، 2019)، تروي لنا سلوى محسن حكايات يتعذر استعادتها إلا بالموت، وتُقدِّم للقارئ كوكبة من الفراديس تقاوم النسيان. وهي تفعل ذلك عبر اجتراح الجمال والحريّة والدهشة.

أنت هنا تطوف، فلا تبلغُ المنتهى.

"في محافظةٍ مصرية قديمة بجنوب الدلتا؛ نصفها بين فرعَي دمياط ورشيد، والنصف الآخر يمتد كظهيرٍ صحراوي غربي فرع رشيد؛ تسكن قريتنا المسافة الواقعة بين الصحراء والماء، قرب تيهٍ من الرمال الذهبية في المنطقة بين الشمالين الشرقي والغربي للدلتا" (ص 13).

وظّفت سلوى محسن كمًّا هائلًا من الأفكار والتفاصيل والجزئيات التي اختزنتها ذاكرتُها وخبرتُها الحياتية توظيفـًا روائيـًا.

"قبل احتشاد أرواحٍ كثيرة على هذه الأرض؛ كانت البيوت تُشيّدُ من الطوب الأخضر والقش؛ بسيطة البنيان، تعلو عن الماء لكل منها بابٌ يفتحُ على النهر. وبتكرار الفيضانات وابتعاد المساكن عن الضفة؛ بات لبعض البيوت بابان؛ الأول لاستقبال الناس وقضاء الحوائج؛ قصير يُظهِر وجه الواقف أمامه وخلفه؛ هو باب النهار، والثاني عالٍ؛ منهم من يستخدمه لصد الغوائل وإدخال وحماية الخزين والماشية؛ وهو باب الليل؛ سر الميلاد والموت، منه يشيعون الأحبة ويستقبلونهم. يطل منه من أراد الاختلاء بالقمر والشجن، يقصده المشتاق لعين الله والباحث عن ضالته" (ص 14).

عبر سطور الرواية، يدخل القارئ بيوت هذه الأرض، ويتعرفُ إلى "الحاصل" الذي يعد سر البيت وستره. "الحاصل يشبه القبو؛ يشيد في مكان رطب وهاوٍ في رواق البيت لا تطاله شمس، مظلم دائمـًا إلا من كوة تهوية بحجم قبضة اليد، تُخزَّن فيه الحبوب وقُفف العيش، براني السمن واللحم المقدد في دهنه، زلع الجبن والعسل، تليس الطحين؛ وهو كيسٌ طويل من القماش، وزكائب الحبوب" (ص 16).

تجري الرواية على لسان الراوية أو الراوية بطريقة التداعي التي يمتزج بها الماضي والشكوك والاستطرادات، حيث تتحدث الشخصيات الرئيسة بصوتها الخاص، فكل شخصية تحكى عن عالمها سائرةً في خطها الذي يتماس بحكم التجاور مع خطوط الآخرين.

بأسلوبٍ بالغ الرقة والعذوبة، تحكي سلوى محسن عن الوردة التي وخز شوكها أجسادنا في الطفولة، والشجر الذي كان يقيسُ نمونا ليثمر.

تستهل الرواية بالصورة البديعة التالية:

"الطرق حزينة والنكسة معلقة على بواباتها. تعلقتُ بخالي. كان حظر التجوال بين المحافظات ساريًا والتنقل بينها صعبـًا. في السيارة؛ تشبثتُ به ورأسي تحت إبطه. رفرف الدمع وخيمت رائحة الفراق. عند كل نقطة تفتيش يرفع خالي كاب الجيش ملوّحـًا؛ فينفتحُ الطريق، ثم يخفضه يخفي به دمعه. كلما انفتحت السكة بكى أبي؛ كأنما كان يريد بقاءنا في لُجّة الطريق كيلا نصل؛ فربما يكون اللقاء الأخير" (ص 5).

وبقدر ما يبدو الخوف بطلًا في هذه الرواية التي تقع في نحو 270 صفحة من القطع المتوسط، فإننا نلمح شكـًا عميقـًا في قدرة الموت على إلحاق الهزيمة بالأرواح الصامدة.

"بين يومٍ وليلة يسكن الخوف قريتنا؛ فتنتبه الأسر الصغيرة إلى أطفالها وشيوخها ومرضاها، وإلى أطوافهم الفقيرة على حافة النهر أو بالقرب منه؛ يخبئون متاعهم القليل بعيدًا عن الماء. يشتمون رائحة الفيضان قبله بأيام قليلة. في العام الفائت نحتت الدميرة حواف النهر، وأكلت باقي الجسر الذي يصلهم بمحيطهم؛ القرية الأم والسجل المدني اللذان تنقطع صلتهم بهما؛ فيمتنع عليهم تسجيل مواليدهم وموتاهم وقضاء حوائجهم؛ حتى يبنوا جسرًا آخر بينهم وبين المركز" (ص 8).

تنسال الحكايات بسلاسة ويُسر، بعيدًا عن دوامة الملل والمراوحة والثرثرة اليومية. "تُخرج سارة آلات لسع الزنابير من جسدي، تلفني بالطين لتهدأ آلامي. تندي الطين بالماء كلما جف، فأتوق لبل عروقي بشربةٍ محمولة على يديها. في المفازة لا شيء يعدل الماء صدقـًا، والسراب ليس خطيئته" (ص 178).

ولنتأمل حال الأم مع ارتفاع حرارة طفلها وغياب الدواء والطبيب عن القرية؛ إذ تقول: "جربتُ كمادات الماء فلم تفلح. احتضنتُ ابني ودخلنا في كفن من البطاطين. تعرّق؛ فتدفق الماء من جسده وهوت الحرارة ثم ارتفعت ثانية. ألبسته جوربه القطني بعدما وضعت فيه نصف بصلة غير مقشورة تحسبـًا لأن يكون سبب ارتفاع حرارته عدوى. بعد ساعة انخفضت الحرارة ثم ارتفعت. وضعت في باطن قدمه شاشـًا مبللًا ببياض البيض وألبسته جوربه. انخفضت الحرارة بعد ما يقرب من ثلث الساعة. ثلاث ساعات أقاوم ارتفاع الحرارة فشل الماء في خفض حرارته العالية" (ص180).

أما الشخصيات، فهي مرسومة بعنايةٍ واضحة، مثل "ستنا هي أم القرية، لكنها لم تتزوج. تحب المخلوقات كأمٍ رؤوم للكون، وكما تحنو على أبنائها؛ تكره منهم أن يقسوا على باقي المخلوقات ذوات الروح؛ والماء، والأرض، والزرع والشجر، والطير والبهائم" (ص 8).

بحثـًا عن الجذور، نطالع "جاء جدي الكبير زارعـًا هذه الأرض؛ بعد أن بارت تجارته في الخشب. نجا من الجوع والحصار في بلدة الشهداء؛ فاستقر في تلك المساحة الوديعة التي أخذت اسمه فيما بعد؛ عزبة أولاد محمد.. تزوج من الحبشية؛ وهذا هو اسمها؛ ابنة تاجر الخشب ذائع الصيت- شريك جدي في التجارة- واسع الغنى الذي يجوب النيل من رشيد إلى أسوان.. أنجبت الحبشية لجدي أول أبنائه الذكور؛ شاهين الحبشي، فثنى بحليمة؛ الحليبية؛ وهي كنيتها.. أنجبت له الرفاعي أول أبنائها وثاني أبناء جدي. رُزِقَ من الحبشية بالبنين الأشداء؛ كما تصفهم الحليبية، وتنسبهم إلى أمهم، وليس إلى أبيهم. استحكم العداء بين أبناء القبيلتين؛ الأحباش والرفاعية" (ص10).

"مناسك الخوف"، روايةٌ بطعم الحياة. من الأفراح الكبيرة إلى الأتراح المهلكة.

إعلان