لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الفتوَّات والشُّطار والعُيّاق

د.ياسر ثابت

الفتوَّات والشُّطار والعُيّاق

د. ياسر ثابت
09:00 م الثلاثاء 29 يناير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

على الرغم من تزايد الجماعات الهامشية وانتشارها، فإنها ظلت لفتراتٍ متفاوتة تندرج تحت باب المسكوت عنه.

لم يأخذ هذا الملف الساخن حقه من الدراسة والبحث في المؤلفات والدراسات ذات الصبغة التاريخية، على عكس التراث الشعبي، وهو ما نجده في سيرة علي الزيبق والظاهر بيبرس وألف ليلة وليلة.

حمل الفتوة في التراث الشعبي هيئةً وصفةً واسمـًا، تناسب الزمن الذي ظهر فيه. وربما وجدتهم في عصر من العصور يحملون لقب الشطار أو العياق.

وامتاز هؤلاء بالحذق والبراعة وخفة الحركة والقدرة على إلحاق الهزيمة بالخصوم، فضلًا عن صفات الحيلة والدهاء والجسارة والإقدام أثناء ممارسة ما يُسمى "الملاعيب" على الناس.

هكذا نرى علي الزيبق في سيرته الشعبية القديمة رجلًا يتسم بالقوة والذكاء والمهارة والحيلة، حتى إنه تفوق على الشطار من أقرانه، ولم يكن يسكت عن ضيم؛ إذ كان يقارع الظالم مهما بلغت سلطته ليأخذ حق المظلوم، فصار بطلًا شعبيًا رفيع المكانة.

من هنا أصبحت الشطارة في الاستعمال الشعبي مرادفًا للبراعة، لا الانحراف. وكذلك العياقة، فقد كانت تدل في المصطلح الشعبي على عائق الطريق، ثم أصبحت تدل على المبالغة في حُسن الهندام.

أما الفتوة، فقد دلت على أخلاقيات فرسان، ثم أصبحت تدل عند العامة على أولئك الذين يتفوقون في القوة، ويفرضون سلطانهم على هذا الحي أو ذاك من أحياء المدينة. وكانت صفة الفتوة جامعة لأخلاق الشطارة والعياقة، ومن ثم لخصت طائفة الفتوات أخلاقيات "ابن البلد" المقدام الشهم الكريم، خفيف الظل البارع في الحيلة، صاحب المقدرة على المناظرة والحديث مثل قدرته على المبارزة والمصارعة، هذا فضلًا عن كونه أنيقـًا ظريفـًا متوددًا بارعـًا في المنادمة.

وإذا كان التراث الشعبي قد اهتم بحكايات الفتوات والشطار والعياق، فإن الأدب اتخذ من عالم الفتوات مادة حية، وبخاصة في الكتابة الروائية، مثلما فعل نجيب محفوظ في "الحرافيش" و"أولاد حارتنا" و"حكايات حارتنا" و"دنيا الله" و"الثلاثية"، بل إن الأديب الفائز بجائزة نوبل استخدم بعض الحكايات الحقيقية، وأدخلها في نصوصه، كما استخدم في ثلاثيته حكاية فتوات الحسينية الذين اشتهروا بأنهم واجهوا الإنجليز. ومن أشهر ما فعله الفتوات أيامها أنهم قاموا بحفر حفرة كبيرة وأسقطوا فيها سيارات الإنجليز، وهي الحادثة التي ذكرها محفوظ في رواية "بين القصرين"، عندما قام بردمها بطل الرواية السيد أحمد عبدالجواد .

ويُنهي محفوظ سيرة عاشور الناجي، فتوة روايته الأشهر "ملحمة الحرافيش"، والتي تناول فيها سيرة عشرة أجيال من فتوات القاهرة، بالقول: "انتصر عاشور الناجي على فتوات الحارات المجاورة، فأضفى على حارتنا مهابة لم تحظَ بها من قبل، فحق لها الإجلال خارج الميدان، كما سعدت في داخلها بالعدل والكرامة والطمأنينة".

وكان عاشور يسهر في الساحة أمام التكية يطرب للألحان، ثم يبسط راحتيه داعيـًا: "اللهم صُن لي قوتي وزدني منها، لأجعلها في خدمة عبادك الصالحين".

وفي "ملحمة الحرافيش" ساوى عاشور ربيع الناجي بين الوجهاء والحرافيش، وفرض على الأعيان إتاوات ثقيلة. وحتَّم عاشور على الحرافيش أمرين: أن يتدربوا على الفتوة حتى لا تتراجع قوتهم يومـًا فيتسلط عليهم وغدٌ أو مغامر، وأن يعتاش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات.

وبدأ عاشور بنفسه، فعمل على بيع الفاكهة، وأقام في شقة صغيرة مع أمه، وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصى درجات القوة وأقصى درجات النقاء.

ولكن يتعين علينا أن نلاحظ قبل ذلك كيف عالج محفوظ في تلك الملحمة جانبـًا مهمـًا من هذه القضية بعمق بالغ؛ فقد تعاقب على الحرافيش عددٌ كبير من الأبطال "الفتوات" كل منهم يقضي على الفتوة الذي يسبقه، مبشرًا بعهدٍ جديد من العدل والنور، بعد أن امتلأت بالظلم والجور، وفي كل مرة يكتشف الحرافيش أنهم وقعوا ضحية الفتوة، "البطل" الجديد، وأن ما منّاهم به ما هو إلا أضغاث أحلام، حتى تولى الحرافيش أمرهم بأيديهم، فأزاحوا بنبابيتهم آخر الفتوات.

ودخل الفتوة السينما أيضـًا بفضل محفوظ، من خلال عدد كبير من الأفلام، مثل "فتوات الحسينية" (إخراج نيازي مصطفى، 1954)، و"الفتوة" (إخراج صلاح أبوسيف، 1957), و"الحرافيش" (إخراج حسام الدين مصطفى، 1986) و"التوت والنبوت" (إخراج نيازي مصطفى، 1986)، و"فتوات بولاق" (إخراج يحيى العلمي، 1981)، و"شهد الملكة" (إخراج حسام الدين مصطفى، 1985)، و"المطارد" (إخراج سمير سيف، 1985)، و"الجوع" (إخراج علي بدرخان 1986).

وعلى الشاشة الصغيرة، تناول عالم الفتوات أكثر من مسلسل تليفزيوني بينها "السيرة العاشورية" (2002، إخراج وائل عبدالله).

بعيدًا عن أعمال نجيب محفوظ، ظهرت أفلام مثل "سعد اليتيم" (إخراج أشرف فهمي، 1985)، الذي شارك في كتابته يسري الجندي وعبدالحي أديب.

إعلان