لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

روح التمدن التي يجب أن تحل بمناهج التعليم

د. عمار علي حسن

روح التمدن التي يجب أن تحل بمناهج التعليم

د. عمار علي حسن
09:01 م الأربعاء 30 يناير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

من الضروري أن تتضمن المناهج التعليمية مساقا واسعا وعميقا للتربية المدنية، يقوم على عدة مبادئ أولها المواطنة الفعالة، والتي تعني المواطنة الواعية والفعالة والمسؤولة والأخلاقية التي ترسخ قيم الجماعية والتعاون والغيرية والشعور بالآخرين والديمقراطية، وثانيها الصالح العام حيث تعمل المؤسسات التعليمية على خلق المواطن الذي يخدم "الخير المشترك" ويسعى لتحقيقه، وتفتح نقاشا عميقا حول هذه المسألة، وتشجع الانخراط في الأعمال التطوعية والصداقة والانفتاح على مصالح الآخرين، وثالثها خدمة المجتمع، التي تعد التجسيد العملي أو التطبيق لمبدأ تغليب "الصالح العام"، ولا يقتصر مردودها الإيجابي على المجتمع فحسب بل ينسحب على الفرد أيضا، إذ أن برامج تعلم الخدمة تدعم الإنجاز الأكاديمي والكفاءة والثقة بالنفس وتقدير الذات، وتنمية روح التعاطف مع الآخرين، وتعزيز مهارات حل المشكلات، بل وتفيد في فرص الحصول على الوظائف.

والمبدأ الرابع هو التعددية والتنوع، حيث توظف التربية في دعم التنوع الخلاق، والاختلاف الطبيعي والطوعي بين البشر، بما ينمي قدرة المتعلمين على التعايش والتسامح والاعتراف بالحقوق والحريات الأساسية ورفض كل أشكال العنصرية والتمييز. أما الخامس فيتعلق بالهوية الثقافية بغية تعزيز قيم الأصالة دون الانغلاق على الذات والانقطاع عن العالم والتصادم مع التقدم والوقوف ضد المعرفة والعلم والأخذ بالجديد والمستحدث والمفيد والنافع. والسادس هو الاهتمام بالثقافة السياسية، وذلك بترسيخ المعارف والقيم والتوجهات والتدابير التي تعزز المشاركة الإيجابية، والانتماء، وتفهم وجود الآخرين ومصالحهم، وتجنب العنف، والإيمان بالتغيير السلمي.

وأخيرا، ووفق ما أورده مصطفى قاسم في كتابه المهم "التعليم والمواطنة"، يجب تحويل المؤسسات القائمة على التعليم إلى بيئات تعليمية جاذبة ومحببة للمتعلمين، وتقوم على مبدأ التربية وفق قيم التسامح، والمواطنة، والعقل، والتفكير الحر، وعدم تقديس نصوص القدامى أو رفعها من مرتبة الرأي إلى مرتبة النص الديني الملزم، ونبذ التعصب والعنف، واحترام الآخر، ومواجهته بالحوار والحجة، ونبذ العنف بما فيه العنف اللفظي، والاعتراف بالحق في التنوع والاختلاف، وإعلاء روح الجماعة والمصلحة العامة بدلًا من الأنانية والتطرف والانغلاق، وتنمية مفاهيم ومهارات النقد المعرفي والعلمي والتعلم الذاتي، ولا بد من أن تجد هذه المنظومة من القيم مكانها في البرامج الدراسية المقررة في المدارس والجامعات، من أجل أن تتشبع بها الأجيال الجديدة والقادمة، وتتحلى بها في التفكير والسلوك.

كما يجب أن تلتفت المناهج التعليمية إلى تدريس عدد من المساقات ومنها المواطنة عبر السماح للمتعلمين بمعالجة مسائل الحقوق والمسؤوليات في مجتمعات متنوعة، والعدالة، والهوية، ومفهوم "الانتماء". كما يتيح هذا الموضوع فرصة لمناقشة مبادئ حقوق الإنسان الأساسية والحريات العامة، ومنها تدريس التاريخ خاصة مسألة الإبادة والفظائع الجماعية، بغية إشراك الطلاب في تأمل الآثار المدمرة للكراهية والعنصرية والعنف، وأيضا تدريس الأديان والمعتقدات، من أجل تعلم احترام التنوع الديني والمذهبي وتجنب الانزلاق إلى السجال العقائدي، فضلا عن اللغات للتعرف على ثقافات الشعوب المختلفة وتطوير مهارات النقاش الشفاهي مع الآخرين، والفنون لتعزيز فهم وتثمين الشعوب والثقافات والتعابير الفنية المتنوعة والمختلفة عن تلك الخاصة بالمرء. يمكن رؤية الفن كلغة عالمية تربط المجتمعات والثقافات عبر الزمان والمكان. إنه يتيح الفرصة لمناقشة كيف أن النكران وتدمير التراث الثقافي والفني بسبب التطرف العنيف هو خسارة للبشرية جمعاء. ومن الضروري أيضا الاهتمام بمسألة حرية التعبير والمساواة بين الجنسين.

إلى جانب هذا تبدو هناك ضرورة تربية أجيال من المتعلمين المستنيرين ورعاية المبدعين وزيادة جرعات المعرفة والعلم من خلال عدة عناصر أهمها القدرة على اتخاذ القرار الرشيد، وإجراء توازن بين العقل والعاطفة، والتحكم في الذات ونفع الآخرين، والتوازن بين ما هو كافٍ وما هو ضروريّ مع التأكيد على أن يحدث أهم التوازنات بين الدين والتعليم لخدمة الأمة.

يستلزم تطوير التعليم المنشغل بالتربية المدنية ليس فقط الدراسة والبحث واستخراج النتائج بل اقتناع المسؤولين والعاملين في قطاع التعليم بأهمية التطوير وضرورته وإشراك وسائل الإعلام في توعية المواطنين بأهداف وأهمية هذا التطوير.

لقد كان التعليم في المجتمعات القديمة يقوم على أساس خدمة الأشخاص الذين يتعلمون، في حين اتسع مفهومه ليصبح المتعلم شخصا قادرا على التمكن من تحقيق مزايا لنفسه، ونفع المجتمع المحيط به، مما جعل المفهوم الوظيفي أو النفعي والقيمي أيضا للتعليم هو الصفة التي يتميز بها التعليم الحالي، فنحن لا نتعلم لنعمل فقط، إنما أيضا لنعي ونتحضر ونتعايش ونتسامح.

إعلان

إعلان

إعلان