إعلان

"القاضي العادل" عادل القاضي.. السيرة أطول من العمر

علي عبد الودود

"القاضي العادل" عادل القاضي.. السيرة أطول من العمر

على عبد الودود
09:00 م الثلاثاء 01 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بوجه بشوش مرسوم على ملامحه الطمأنينة، ويدين تمسكان بأبواب العلم والثقافة في أغلب الأحيان.. وكلمات رقيقة تخرج من بين شفتيه، تنزل علينا مثل "البلسم" كان يستقبلنا الاستاذ عادل القاضي، رئيس تحرير بوابة الوفد، عندما كنا ندخل مكتبه أو نلتقي به داخل صالة التحرير.. فلم يكن الأستاذ عبوسًا ذات يوم أو ضيق الأفق، فاتسعت أساريره لكل من التقى به أو لجأ إليه.

عادل القاضي.. البساطة وإنكار الذات

أنشأ عادل القاضي بوابة الوفد الإليكترونية، برئاسة تحريره، ولم يطلب حينها تخصيص غرفة تضم أثاثًا فارهًا له، أو سكرتيرة لتدوين مواعيد المقابلات، أو حتى لمخاطبتها من جانب زواره، للقائه.. فقط اكتفى بمكونات بسيطة عبارة عن مكتب خشبي وكرسي يجلس عليه وأمامه مقعدان خشبيان وكنبة، للضيوف وبجانبه مجموعة من الأدراج لحفظ الأوراق، وأرضية لا يغطي بلاطها شىء.

لم يكتفِ الأستاذ بالبساطة في أثاث مكتبه فقط، لكنه جعل بابه مفتوحًا طوال الوقت لا يُغلقه قط، ليستقبل كافة زواره من جميع الفئات، سواءً كانوا من فريق العمل أو مواطنين يشكون إليه أحوالهم وأحيانًا مصادر صحفية أو من البسطاء الفقراء الذين كانوا يعتبرونه ملاذا وعونًا لهم.

بساطة أثاث مكتب القاضي لم تكن الشيء الوحيد الملحوظ، لكل من يرتاده، فخصص الراحل من داخل غرفته أخرى داخلية، فرشها بالسجاد ليصلي فيها من يرغب، بأي وقت، ليدخل مارًا بساحة الأستاذ، دون إذن أو طلب.

كان الجميع يحاول اختلاق أي موضوع من أجل الجلوس مع هذا الرجل الحكيم والاستمتاع إلى ما يقول، فكلماته الممتعة تنزل على الجميع فرحًا.

عادل القاضي وإنكار ذات

في داخل مقر الصحيفة التاريخية وتحديدًا بموقعها الإليكتروني كان لا يحمل الأستاذ عادل القاضي كل صباح إلا الأخبار السارة للتلاميذ بتقدمهم وتفوقهم "ينسب دائمًا هذا النجاح لفريق العمل كافة"، ولا يذكر فضل نصائحه أو إنجازاته من قريب أو بعيد.

صوت الأستاذ يعلو

ماذا جرى.. صوت الأستاذ يعلو في صالة التحرير قائلًا: تجمعوا سريعًا.. نتساءل فيما بيننا ونتمتم ماذا حدث، هل فعل منا ما أغضبه.. نهرول إلى مكتبه ولا نعلم أي شيء، وكيف لنا أن نغضبه وهو الأب الروحي، والساعد القوي والسند لنا.

نتقدم بخطى بطيئة وحثيثة نحو مكتب الأستاذ، فيطلب من الجميع الجلوس، نصمت لننتظر ماذا سيحدث وما هو الجُرم الذي ارتكبناه وحجمه، حتى استدعانا بالكامل.. نترقب، وننظر لبعضنا، وفجأة يفتح عادل القاضي حقيبته ليخرج منها طعامًا وشرابًا ويضعه على مكتبه ويبدأ في تجهيزه بيده.. أحدنا يسأل.. ماذا فعلنا يا أستاذ فيرد؟ القاضي: فقط دعوتكم لنتناول معًا وجبة الإفطار (تكرر هذا الموقف كثيرًا).

الأخلاق والمهنية

جلست بجوار الأستاذ ذات مرة عند اختباره للصحفيين الذين يريدون الالتحاق ببوابة الوفد فوجدته يستبعد بعض أصحاب الخبرات ويقبل شبابا من الخريجين الجدد، وهو ما أصابني بالدهشة.

لم أتوانَ لحظة لأسأل الأستاذ عن سبب استبعاده لهؤلاء وقبول من هم في "بداية الطريق"، على الرغم من اسم المكان الكبير الذي يحتاج بالطبع لصحفيين أصحاب مستوى عالٍ، فكان رده: "شوف يا علي هقولك حاجة للزمن أنا أثناء إجراء مقابلات، أطرح بعض الأسئلة على المتقدم لاستشف ما إذا كان يتمتع بالحفاظ على المبادئ وصاحب خلق وطموحا، فإن كان كذلك يكون مقبولًا للانضمام، حتى وإن كان خريجًا جديدًا، ومع التدريب ضمن فريق العمل وبعد فترة سنصنع منه صحفيًا متميزًا.. (الأخلاق والمبادئ أولا يا على)، أما إذا كان من أصحاب الخبرات وإن كان له باع طويل في المجال ولا يتمتع بالمهنية والخلق فلا فائدة منه وسيفسد أي فريق ينضم إليه، لذا الأول أفضل وسيكون نجمًا معنا وسيخدم رسالتنا التي تصب في صالح المواطن أولًا".

رحيل الأستاذ

فجأة رن جرس هاتف بوابة الوفد يوم 25 أبريل 2011 ليرِد إلينا عبره نبأ وقع على الجميع مثل الصاعقة.. يخبرنا بوفاة الأستاذ، أثناء تواجده في قضاء عطلة مع أسرته بالإسكندرية وإصابته بوعكة صحية.. كلنا نردد: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، والدهشة والذهول على وجوه الجميع.. نتحرك بخطوات عشوائية داخل الصالة ولا نعلم ماذا نفعل أو إلى أين نذهب.. فقدنا السند.

وفي اليوم التالي وصل جثمان عادل القاضي ليوارى الثرى في مقابر عائلته بمنطقة السادس من أكتوبر، وسط جمع غفير من المشيعين.

يوم التأبين

في غرفة كبيرة بنقابة الصحفيين حضر زملاء وتلامذة عادل القاضي وأسرته يوم 5 مايو 2011 حفل تأبينه، بنقابة الصحفيين، وعلامات الحزن تكسو وجوههم.. الصحفيون الذين اعتادوا الحديث مع مصادرهم وبرعوا في الخطابة توقفت ألسنتهم جميعًا لا يدرون ماذا جرى؟ الرؤوس جميعها إلى أسفل.. والوجوم يسيطر على المكان.. وبعدها بلحظات يذاع فيلم تسجيلي عبر الشاشات يصور جزءا من حياة الراحل، يظهر القاضي في بدايته بوجه مبتسم يطل على الجميع، وصور للراحل وهو يوزع الطعام والتمر على المارة في الشوارع، وأخرى عندما كان يستقبل صغار الصحفيين الموهوبين كفاتحين، بهدف تحفيزهم والشد من أزرهم، ولقاءاته مع البسطاء من المواطنين الذين يشكون إليه أحوالهم".. يتحول الصمت لبكاء، فالصغار والكبار يذرفون دموعًا غزيرة لا تتوقف.

عادل القاضي وصورة العروس

كنت أحكي لزميلتي الصحفية رانيا ربيع، عن الأستاذ وما ترك من سيرة عطرة، فإذا بها تقول: "في ذات مرة وعلى موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك شاهدت انتشارًا لصورة عروس بفستان زفاف، استغربت، وسألت نفسي: ما السر وراء هذا؟.. الصورة تبدو عادية وليس بها ما يدعو لكل هذا.. أردت الاستفسار من بعض الزملاء الذين شاركوا هذه اللقطة فكان رد أحدهم: إنها ليست أي عروس فهي ابنة الراحل عادل القاضي، وهذا الاحتفاء والاحتفال بها جزء من جزاء ما صنع والدها من خير فلم يتوانَ لحظة في تقديم يد العون لكل من طرق بابه".. واختتمت رانيا كلماتها: "تمنيت أن أكون من تلاميذ الأستاذ بعد ما سمعته من صنائع المعروف التي لم تتوقف منه تجاه الغير طيلة حياته، فأحببته ولم أرَه".

أخيرًا.. وكما يقال في المثل الشعبي: "السيرة أطول من العمر".. مضت 7 سنوات على رحيل الأستاذ، ومازالت سيرته العطرة تتداول بين الناس، فكان له من اسمه نصيب "عادل القاضي.. كان قاضيًا عادلا بكل موقف يفصل فيه".

سأظل فخورًا بأنني التقيت عادل القاضي، وتتلمذت على يده، ولو لفترة قصيرة تمنيت أن تطول، وسأحكي عنه ماحييت.

"رحم الله الأستاذ، وأسكنه فسيح الجنات.. وجعل ما قدم في ميزان حسناته".

إعلان

إعلان

إعلان