لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

في وجه من فقد كل شيئ

يسرى فودة

في وجه من فقد كل شيئ

12:01 م السبت 24 سبتمبر 2016

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يسري فودة - دويتشه فيله:

رسميًّا و حتى قبل دخولنا إلى الربع الأخير منه، هذا هو أكثر الأعوام حصدًا لأرواح اللاجئين. يسري فوده يناقش المسؤولية في هذا المقال.

حتى كتابة هذه السطور كان عدد الضحايا قد ارتفع إلى 55 غريقًا كانوا يحاولون الوصول إلى أوروبا من مصر عبر البحر المتوسط. و كان هؤلاء، بترتيب من مهربين، بين أكثر من مئتي روح تكدست على ظهر مركب صغير انطلق يوم الأربعاء الماضي من شاطئ رشيد في مصر في اتجاه نقطة ما جنوبي أوروبا قبل أن ينقلب المركب بهم جميعًا.

قبلها بيوم واحد، كان متحدث باسم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة قد أعلن أن هذا العام - حتى قبل أن ندخل إلى الربع الأخير منه - أكثر الأعوام حصدًا لأرواح اللاجئين الذين يحاولون اختراق الحدود الجنوبية لأوروبا. العدد الدقيق (فقط هذا الذي سمعت به المفوضية) هو 3211 روحًا خلال أقل من تسعة أشهر. الآن صاروا 3266 على الأقل و لم نبلغ نهاية الشهر التاسع بعد.

و في اليوم نفسه، كنا نعرض في برنامج "السلطة الخامسة" نتائج تحقيق استقصائي عن آثار الاتفاق الذي توصل إليه الاتحاد الأوروبي مع تركيا بهدف وضع حد لتدفق اللاجئين من شواطئها نحو الشواطئ الأوروبية قبل ستة أشهر. من خلال تتبع مسيرة عدد من اللاجئين السوريين على مدى الشهور الأخيرة، كانت النتيجة الأولى باختصار أن شيئًا لم يكن ليقف في وجه من فقد كل شيئ.

هذه مأساة إنسانية كبرى لم يشهد العالم مثيلها، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية. إذا لم يكن واضحًا أمامنا من المسؤول عنها فإن تحليلًا ظاهريًّا للكلمات العشر الأخيرة في الفقرة السابقة ربما يساعدنا على ترتيب المسؤولية تصاعديًّا على النحو التالي:

أولًا، "شيئًا": تشير إلى تلك الاتفاقات و القرارات و الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي بشكل جماعي، أو اتخذتها دوله بشكل منفرد، لردع اللاجئين عن محاولة الوصول إلى أوروبا، أو لرفع تكلفة المخاطرة في عيونهم، أو حتى لـ "تطفيش" من وصل منهم. سوى تشديد الرقابة على السواحل، اتخذت بعض الدول الأوروبية أيضًا قرارات تعجيزية من بينها تعطيل حق اللاجئ في لم شمل أسرته. و ليس في هذا تنفيرًا لهؤلاء الذين وصلوا إلى أوروبا و حسب، بل أيضًا ردع لأولئك الذين يفكرون في المخاطرة. و فيه كذلك رفعٌ محتمل لمنسوب المخاطرة بتشجيع مزيد من اللاجئين القادرين على اصطحاب ذويهم غير القادرين في طريق الأذى.

حتى ألمانيا، قاطرة أوروبا التي فتحت ذراعيها للاجئين على مدى العامين الماضيين في سابقة أخلاقية نادرة، تعترف الآن بالعجز. تحت وطأة اليمين المتطرف و الحسابات السياسية يقول لنا بوركارد دريغر، المتحدث باسم الكتلة البرلمانية للحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم لشؤون الاندماج: "نعم، أدركنا أننا لا نستطيع أن نستمر بنفس الطريقة التي اتبعناها في العام الماضي، و بدلًا من ذلك انتهجنا طريقًا أكثر فعالية لاحتواء هذا التدفق دون انتهاك للقانون .. لا تستطيع ألمانيا أن تستوعب كل من يبحث عن حياة أفضل؛ فهناك حدود لذلك".

ثانيًا، "لم يكن ليقف": تشير إلى رد الفعل من جانب اللاجئين (و الأطراف التي تساعدهم، من مهربين أو متعاطفين أو متطوعين) على تلك الاتفاقات و القرارات و الإجراءات. جاء رد الفعل هذا في بعض الأحيان تحدّيًا مباشرًا باتخاذ الطرق المعتادة بكل ما لها من كلفة زادت بعد تشديد الرقابة، أو بالبحث عن طرق بديلة كلها أكثر صعوبة و بعضها متناهي الخطورة. بطل تحقيقنا الاستقصائي كان قد وصل إلى شاطئ أزمير في تركيا عندما أُعلن عن الاتفاق الأوروبي التركي لتشديد الرقابة. اختار مع آخرين أن يهبط إلى السودان دون خطة محددة سوى النفاذ منها عبر الصحراء إلى مصر. و عبر تلك الصحراء التي كانت قد قضت على آخرين قبله استطاع من خلال سلسلة من المهربين أن يصل إلى شاطئ في الإسكندرية انطلق منه على ظهر مركب صغير مع آخرين فوصلوا قبل ستة أسابيع إلى جزيرة صقلية في إيطاليا في طريقهم إلى ألمانيا.

يستحق المتعاطفون و المتطوعون كل احترام؛ فهؤلاء دائمًا ضمير الإنسانية وسط غابة من الظلم و الفساد. أما المهربون فمن الصعب توجيه اللوم إليهم و هم أنفسهم ضحايا واقع بائس يبعث على اليأس. هم يعلمون أنهم يقومون بعمل "غير قانوني"، لكنّ لديهم في الوقت نفسه قدرةً على قراءة الموقف و استعدادًا لدفع الثمن.

1

ثالثًا، "في وجه من فقد كل شيئ": تشير ظاهريًّا إلى اللاجئ لكنها في الواقع تخص ذلك الذي أفقده كل شيئ. ثمة قواسم مشتركة بين اللاجئين باختلاف ظروفهم و الأماكن التي نزحوا منها. بين أكثر من 300 ألف لاجئ اخترقوا الحدود الأوروبية هذا العام - رغم الإجراءات المستحدثة - ستجد أن الغالبية العظمى أتت من سوريا و العراق و أفغانستان. و من الواضح أن شعوب هذه الدول وقعت بين سندان أنظمتها و مطرقة القوى الدولية. يتحمل هذان الطرفان مسؤولية مباشرة عن حالة البؤس و اليأس التي أصابت بشرًا فقد كل شيئ فصارت المخاطرة بالحياة في أعينهم أهون من البقاء. لا يكون من قبيل الكرم إذًا أن يتحمل المجتمع الدولي نصيبه من المسؤولية أمام هؤلاء.

لكنّ البؤرة تتسع لتشمل آخرين أتوا من مصر و بقية شمال أفريقيا و من شرقها و من أعماقها. تجمعهم كلهم ظروف معيشية بائسة في دول فاشلة أو في طريقها إلى الفشل تحت أنظمة ديكتاتورية فاسدة على مرأى من الدول "المتحضرة" إن لم يكن بتأييد مباشر منها. هذه أنظمة تعلم تمام العلم أنها لا تستمد شرعيتها من شعوبها، و من ثم تسعى إلى تعويض ذلك باستجداء رضا القوى الغربية، و القوى الغربية ترحب دائمًا بهذا ما دامت خيرات تلك الشعوب ستنتقل إلى شعوبها.

المسؤولية هنا تتوزع مرة أخرى بين السندان و المطرقة، لكنّ عاقلًا لا يستطيع أن يتجاوز في حكمه أصحاب الشأن أولًا قبل أن ينتقل إلى المنتفعين، و لا هو يستطيع أن يتجاهل حقيقة أن السمكة تفسد دائمًا من رأسها

إعلان