لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

وجهة نظر: الحياة في بلاد "شَمَت- ستان"..!

محمد أحمد فؤاد

وجهة نظر: الحياة في بلاد "شَمَت- ستان"..!

11:16 م الخميس 07 مايو 2015

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - محمد أحمد فؤاد:

أتابع ببالغ الأسى والدهشة (كالعادة) على مدار أشهر مضت ما وصل إليه مجتمعنا من قدرات استثنائية على الشماتة والتشفي والكراهية غير المنضبطة، معاني ربما أصبحت أيقونات حاضرة بقوة في قاموس مفرداتنا اليومية، وتكاد تحفل بها كل وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، وكذا أغلب صفحات التواصل الاجتماعي على نحو غير مسبوق.. قاسم مشترك بلا شك هو أزمة أخلاق بحتة موازية تماماً لأزمات أخرى اقتصادية وسياسية وغيرها الكثير، وكأن الادمان على الخضوع لرزائل الذم والقدح والسباب بلا مبرر أو سند منطقي أصبح ضرورة من ضرورات العصر..!

لم يكن الحال كذلك.. كنا أكثر احتراماً وتحضراً في أساليب التواصل، بين المرأة والرجل، والكبير والصغير، والأستاذ والتلميذ، والغني والفقير، حتى بين العالم والجاهل..! كنا أكثر إنسانية وتراحم ومودة.. وكنا نجتمع على السخرية من الشدائد والصعوبات ونتغلب عليها بالنكتة والفكاهة.. لكننا لم نكن أبداً لنتبادل السباب والازدراء بتلك الصورة المقيتة، حتى صار التطاول وكأنه سلوك طبيعي يمارسه الجميع بلا ضوابط تذكر.. ودعوني في جملة تلك الاعترافات المؤسفة أن أبادر بقطع الطريق على نخب وخبراء محترفي المزايدة والصيد في الماء العكر، لأقول أمام ما يبثون من ضلالات سامة عبر الأبواق والشاشات المشبوهة، أن مفهوم الحرية في المطلق لا يعني الخروج عن الأعراف والتقاليد والآداب العامة، وهو برئ تماماً من جرائم التدني الأخلاقي التي تحاصرنا من كل حدب وصوب، وأزيد أن الجهل المتبوع بالتهور، والتطرف والعصبية المفتعلة، وعشق النميمة و الإقدام على اقتحام شئون الغير، وممارسات الاستعلاء الطبقي ضد الفئات الأقل حظاً، وكذا الاحساس بالدونية لدى الكثيرين من أبناء هذا المجتمع هم الاسباب الحقيقية وراء ما وصلنا إليه من انهيار أخلاقي وتفكك مجتمعي، ويُسأل وحده عن هذا التدهور قائل العبارة الشهيرة: "خليهم يتسلوا".. فهو نفسه من سمح خلال فترة حكمه باختزال طموحات الشعب في منح وعطايا وفتات موائد السلطة، ومهد ومن معه للاستسلام أمام حصار الرخيص من العارض والمعروض..!

قد نختلف مع الغرب في أمور تحتمل الخلاف فكرياً أو عقائدياً، ولنا كل الحق في أن نفضح توجهاته الاستعمارية الفاشية، وأن نتصدى لها بكافة السبل.. لكن لا يصح أن نمسك بمقود الشماتة مرددين لمفردات التشفي والكراهية أمام مأساة بشرية كارثية بكل المعاني، نمارسها نحن قبل غيرنا ونروج لها ربما دون إدراك، هي آفة التطرف والعنصرية..!

النموذج الذي نحن بصدده هنا هو هذا الانقسام المجتمعي المقترن بالعنف الذي طغى واستشرى داخل المجتمع الأمريكي مؤخراً، وللعجب اكتفى أغلبنا أمامه بالسخرية فقط، دون اهتمام بالبحث والتدقيق داخله من أجل الوصول إلى أسبابه الحقيقية..! الثابت أن العنصرية المفرطة وعقدة اللون هم من المكونات التراثية لتركيبة المجتمع الأمريكي، وهذا أمر ليس بجديد، وتدركه تماماً أطياف المجتمع الأمريكي كافة، ومن ينظر لتاريخ أمريكا الحديث سيجد أن بناء المجتمع هناك جاء على أنقاض حضارات حقيقية تم محوها تماماً مع وصول الرجل الأبيض كما أطلق عليه السكان الأصليون.. فقد وصل البحارة الأسبان بقيادة فرانشيسكو بيثارو جونزاليس 1478 : 1541 لشواطئ أمريكا حاملين معهم البارود الذي نستطيع توصيفه بسهولة على كونه وقود العنف والانتهازية والعنصرية في العصر الحديث.. حتى أن بعض أوراق شاعر مجهول نجت بمحض الصدفة من مجازر الإبادة كانت تقول: "كالطاعون حل البيض الغلاة، الباحثون عن الذهب في أرضنا.. فهمسوا للأب الأنكا العظيم الطمأنينة، لكنهم قدموا له الموت بغدر الضبع ومكر الثعلب، قتلوه كحيوان اللاما الصغير "..!

ثم حدث أن انتشرت وازدهرت تجارة الرقيق في الأرض الجديدة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وارتبط اكتشاف أمريكا واستيطانها والاقبال على الهجرة إليها بزيادة الرغبة وارتفاع الطلب على استجلاب الرقيق الأسود من مستعمرات إفريقيا ليقوموا على خدمة المجتمعات الجديدة.. وقد كانت هناك قوانين وضعية شديدة القسوة والبطش تحكمت في أحوال العبيد في ذاك الوقت.. وكانت مدينة جيمس تاون بولاية فيرجينيا هي محطة استقبال أول وصول لأفواج العبيد الأفارقة، وكان ذلك في العام 1619.. واستمرت المأساة إلى أن أتي أبراهام لنكولن عام 1863 خلال الحرب الأهلية الأمريكية ليوقع إعلان تحرير الرقيق وإنهاء العبودية رسمياً.. ربما فعل الرجل ما لم يتجرأ أجداده على فعله، لكن بقيت أثار الماضي وجروحه الغائرة عالقة في الأذهان حتى يومنا هذا.. ومنذ ذلك الحين ظلت العلاقة بين الرجل الأبيض والملونين خاصة أصحاب البشرة السمراء علاقة شد وجذب وصعود وهبوط بلا توقف.. تستطيع تمييز هذا بسهولة من خلال تعدد لهجات الحديث داخل اللغة الواحدة، وتباين أنماط الملابس والمظهر، والشعارات المتداولة داخل الأحياء السكنية ودور العبادة والمدارس، وحتى داخل دوائر الإنتاج السنيمائي ومجالات الأدب والرواية والشعر يظهر هذا جلياً وبوضوح..

ردتني الأحداث الأخيرة لقصة واقعية تعود للعام 2003 على ما أذكر، وأظنها تدلل على تلك الحقائق.. كنت في زيارة هي الثالثة حينها على المستوى الشخصي لبلاد العم سام، وجاءت إقامتي لمدة أسبوع كامل بمدينة نيويورك التي دائماً ما أوحت لي بضيق الأفق بالرغم من بناياتها الشاهقة المشرعة في وجه السماء.. سكنت تحديداً بالجزء الشمالي الشرقي من حي مانهاتن العريق على أطراف حدائق سنترال بارك الرائعة، وبالقرب من حي هارلم الفقير معقل الأغلبية السمراء ومقر مسرح الأبولو الشهير .. تلقيت حينها دعوة وبعض الأصدقاء لحضور حفل شواء نهاري بمنطقة نيو جيرسي بمنزل إحدى الفنانات الشهيرات بالمدينة هي السوبرانو السمراء بينواه توماس، وزوجها مطرب الروك المعروف دينيس توماس الشهير بلقب "دي تي" عضو فريق كوول أند ذي جانجز.. الدعوة لدهشتي جاءت خاصة بأصحاب البشرة السمراء فقط لكني لم أنتبه حينها للمغزى، وكانت ملاحظاتي على أجواء الحفل بأنها كانت شديدة البذخ من حيث تعدد أصناف الطعام الفاخر، والكميات المبالغ فيها نسبة لعدد الحاضرين، وعشرات الأصناف من المشروبات بكافة أنواعها، مستوردة خصيصاً للحفل من عدة دول أوروبية وجنوب أفريقيا.. ببساطة كانت المبالغة والإسراف هم السمات الطاغية بلا مبرر واضح.. ثم اتضح الأمر أثناء مروري داخل المنزل، حيث لاحظت على الفور مجموعة من اللوحات المعدنية الإرشادية من حقب تاريخية مختلفة تتصدر بهو المنزل الفخم لا تخطئها العين.. بعضها كتب عليه بإنجليزية صريحة ما كانت ترجمته: "ممنوع صعود الزنوج للحافلة"، "محظور اصطحاب الحيوانات أو ركوب الزنوج"، "ممنوع دخول أصحاب اللون الأسود".. بضعة لوحات يعلوها الصدأ، لكنها لا تخلو من أثار العنصرية البغيضة، بررت صاحبتها الاحتفاظ بها على أنه جزء من تاريخ لا ينسى ومأساة مستمرة لم ولن تنتهي على حد قولها..

تلك الكلمات البسيطة لصاحبة الحفل بالرغم من ازدواجيتها وتناقضها مع حياة الترف والبذخ الواضحة، ربما كانت كفيلة بكشف حقيقة المشاعر المضطربة التي تحكم عمق الشخصية الأمريكية بصرف النظر عن المستوى الاجتماعي أو الانتماء العرقي، وها هي تبعاتها تتجلى الأن بوضوح..

فهل يكفي هذا لتلقيننا درساً في أهمية إسقاط ملامح العنصرية والشماتة من قاموس مفرداتنا اليومية والتخلص منها، وأيضاً محاولة استدراك الأدمية المفقودة داخل الإنسان العصري وإعادة صياغتها..!؟

إعلان

إعلان

إعلان