لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بلا أحباء ولا بيوت.. هكذا يقضي جنوب لبنان عيد الميلاد بعد الحرب

01:54 م الثلاثاء 24 ديسمبر 2024

مغارة الميلاد ببيوت محترقة داخل دير بمدينة صور

-مارينا ميلاد:

بلدة ديرميماس، لبنان - على بعد بضع كيلومترات فقط من الحدود الإسرائيلية، لا مكان للاحتفال عيد الميلاد مثل كل عام، فأغلب البيوت خلت من ناسها، والشوارع فرغت من زينتها، والمتشبثون بأرضهم أو العائدون إليها يملأهم مزيج من التوتر والحذر، حتى صوت الصلاة صار خافتًا.

صباح الأحد، كانت البلدة الصغيرة أو "الضيعة" كما يسمونها، هادئة تمامًا، هادئة بشكل أقل كثيرًا من المعتاد، حتى الحركة الخفيفة التي كان يجلبها قداس الأحد لم تكن حاضرة. فلم يعد غالبية السكان النازحين إلى بيوتهم ولم يتمكن الكهنة من إقامة القداس للموجودين، ومنهم الأب توفيق بو مرعي، الذي لم يمنعه القصف طوال الفترة الماضية من الذهاب إليهم.

لكن الحال الآن، كما يصفه، "سيء، محرومون من العودة والصلاة، والكنيسة والدير متضررين ولم نقدر حتى أن نطل عليهم". لذا تقام القداسات لمن يريدها في بيروت، وهكذا قداس الميلاد.

رغم أن هذه المنطقة الممتدة سهولها جنوبًا إلى الجليل في فلسطين ومرتفعات الجولان في سوريا، ربما مشي السيد المسيح بها يومًا، ولم يُخيل لأحد أن تُحرم من فرحة ميلاده بعد أكثر من عام من بدء التصعيد بين حزب الله وإسرائيل إثر حرب غزة، والتي امتدت عبر الحدود اللبنانية منذ 23 سبتمبر الماضي ثم أوقفتها هدنة "مُخترقة منذ لحظتها الأولى".

“ثم خرج يسوع من هناك، وانصرف إلى نواحي صور وصيدا” (إنجيل متى 15: 21).

مدينة صور، جنوب لبنان –

وسط أحياء مهدمة بفعل الغارات الإسرائيلية خلال الأشهر الماضية، يقف الأب توفيق بو مرعي، وهو كاهن اللاتين (الكنيسة اللاتينية) في مناطق تمتد من صيدا حتى الناقورة، بساحة أحد أديرة المدينة العتيقة.. يشد جسمه ليطول أعلى شجرة الميلاد ليزينها، ومعها المغارة التي حاوطها أشكال لبيوت محترقة ومهدمة، ويشاركه في ذلك رواد الدير والأطفال.

يقطع ما يفعله اتصالات متتالية من أهل بلدة ديرميماس التي تبعد عن صور نحو 40كم.. الجميع هناك يعرفونه، فقضى من عمره البالغ 55 عامًا نحو 14 عامًا في خدمة البلدة.. أخذ يطمئن على أحوالهم، ثم سألوه عن قداس الميلاد، فأبلغهم أنه سيكون على الموعد ببيروت.

تسمر مكانه بعدها للحظات، ليقول بوجه جامدًا: "بعد الهدنة رجعنا على صور لنقيم الصلوات ونصنع هذه الزينة لنهون على أناس حزانى فقدوا بيوت وأحباء، في وقت، لا يمكن لغيرهم من أهل ديرميماس العودة إلى بلدتهم من الأساس".

فرغم أن الرجل من بلدة الدامور الساحلية القريبة من بيروت، إلا أنه يبدو أكثر قربًا إلى "ديرميماس" النائية. أحب "الضيعة" وناسها، فيحكي: "كنا نعيش بسلام هناك، كانت ضيعة حلوة ورايقة، أجواء العيد كنا ننتظرها للم شمل العائلات، وتزيين الشوارع والصلاة معًا، لكن العيد هذه المرة ذاهب إلى عند النازحين ببيروت مع غصة ودمعة"..

Main Photo (1)

يسير الأب توفيق على بقايا زجاج متهشم لازال مبعثرا بالدير، يطقطق تحت قدميه، فيذكره ذلك الصوت، بكل ما جرى خلال الأشهر الماضية وأوصلهم إلى الاحتفال على هذا النحو.

قبل نحو شهرين...

مع شروق شمس الأحد، قاد الأب توفيق سيارته كعادته الأسبوعية متجهًا إلى بلدة ديرميماس الصغيرة المطلة على نهر الليطاني، حاملا معه الفاكهة والخضار للعائلات هناك.

قطع نحو 45 دقيقة، شاهد فيها مُسيرة تضرب سيارات أمامه، ثم جثث متناثرة على جانبي الطريق، وأعمدة الدخان تتصاعد من داخل البلدة.. لكن رغم ذلك واصل طريقه إلى الكنيسة ليقيم القداس.

كان الحضور ضعيفا، لا يتجاوز بضعة أشخاص، وهو أمر غير مألوف لهذه البلدة المسيحية التي أخذت اسمها من اسم دير القديس ماما (ميماس)، ومقسمة بين طوائف الروم الأرثوذوكس (الطائفة الأكبر)، الروم الكاثوليك، واللاتين.. لكن الأب توفيق كان يدرك أنه في بلدة "واقعة بين نارين"، كما يصفها، فمن جهة القنابل الإسرائيلية ومن الجهة المقابلة صواريخ حزب الله.

فيقول: "الجميع خائفون، ولم يتمكنوا من التحرك بسهولة.. لكن حتى لو شخص واحد فقط بحاجة أنه يصلي يجب أن نكون بجانبه ونساعده".

Map

تلا الأب توفيق الصلاة، وفي الخلفية صوت القصف يتداخل معه، ثم أوقفه شدته أكثر من مرة، لكن ظل يحاول أن يكمل.

أنهى قداسه ثم مضى عائدًا إلى مدينة صور، حيث يقيم. سار على طرق ملتوية وسط بيوت "ديرميماس" الحجرية القديمة المفترشة هضابها، لكنها بدت غريبة، شبه مهجورة، فاضطر أغلب سكانها المقدر عددهم بنحو 6 آلاف نسمة إلى مغادرتها والنزوح تباعًا بعد التصعيد الذي جرى بين إسرائيل وحزب الله بداية من شهر سبتمبر هذا العام.

مَر بين حقول الزيتون الشاسعة التي تشتهر بها البلدة، وعمرها يعود لنفس موعد ميلاد المسيح تقريبًا.. ثم يقترب من بلدة كفركلا ذات الأغلبية الشيعية، والتي سُويت بالأرض بسبب القصف، كما رآها، فهي مطلة على مجرى نهر الليطاني المتابع سيره نحو الوادي حيث يختبئ مقاتلو حزب الله.

فيقول: "كلما قٌصفت كفر كلا، تردد صدى الدوي في دير ميماس"، فتهتز معه أبنيتها التي يعلوها الصلبان.

Main Photo (2)

ما إن يعود الأب توفيق إلى ديره بمدينة صور، حتى تتعثر قدمه بالأكياس البلاستيكية والأغطية للنازحين المفترشين أرض ساحة الدير.. هنا 170 شخصا من الأطفال والنساء والرجال والعجائز، جميعهم مسلمون.

يقول الأب توفيق، وهو يجهز لهم بعض المساعدات: "تعاونا وانكسر الجليد بيننا، ويمكن أن تكون هذه الميزة الوحيدة من المصيبة التي حلت بنا".

Main Photo (3)

في صباحات الأحد التالية، انصرف الأب توفيق من وسطهم لأجل بلدة ديرميماس. فيرى أن الأمر "أكثر من مجرد صلاة، فالقداس علامة سلام تطمئن الموجودين". لكنه وجد أن القصف اشتد واقترب أكثر، فبعدما كانت القنابل والصواربخ تتساقط في الحقول وحسب، باتت على مسافة مئات الأمتار من البيوت ومن الدير.

كما قل عدد العائلات الـ150إلى نحو 8 عائلات، كما يذكر جورج نقاد (رئيس بلدية ديرميماس)، فالباقين إما لا يستطيعون تحمل تكاليف الانتقال إلى مكان آخر، أو يخشون ألا يتمكنوا من العودة.

وذات يوم تفاجأ هؤلاء باقتحام جنود إسرائيليون أرض دير القديس "ماما"، أهم ما في البلدة على الإطلاق، ساخرين من الطقوس المسيحية، وهو ما أدانه المطران الياس كفوري (راعي إبراشية صور وصيدا وتوابعهما للروم الأرثوذكس) في بيان، ووصفهم بــ"التافهون والخارجون على كل القوانين الإنسانية والإلهية".

في نفس الوقت، كان أمثال هؤلاء الجنود يقصفون مدينة صور، على بعد 20 مترا فقط من الدير الذي يأوي النازحين.. فراح الجميع يركضون في أنحاء مختلفة، واتجه الغالبية ناحية بيروت، ومعهم الأب توفيق الذي كان ينشر رسالته للتو على مواقع الكنيسة ليصف فيها الوضع:

”أيتها القنبلة، أرجوك، اتركينا في سلام. أيها الصاروخ، لا تنفجر. أناشدكم لأن الآذان الأخرى قد صمت، والقلوب تحجرت، يطلقون عليكم اسم القنابل الذكية، كونوا أكثر ذكاء ممن يستخدمونكم.. سيلا، طفلة في السادسة من عمرها، لم يبق لها أحد: لا الأب، ولا الأم، ولا الأخت، ولا الجدود، تركوها في هذا العالم القاسي. وصاروخ آخر دمر تسعة منازل في الحي الفقير في صور، على بعد 50 مترا من الدير. سقطت الحجارة في الفناء حيث يوجد النازحون. الخوف، الصراخ، البكاء، والرعب اختلطوا بدماء الجرحى. وهكذا استقبلنا من تبقى من العائلة المذبوحة.. كفى، كفى!..

إلى من أصرخ؟. ما هي خطيئتنا التي نستحق عليها عقابا بهذا الحجم؟ ربما خطيئتنا الوحيدة هي هذه الأرض المباركة من الرب والتي دنسها الإنسان. ذنبنا أننا ولدنا في هذا البلد الذي يعاني منذ أكثر من 50 عامًا".

لكن رسالته حٌفظت دون رد كغيرها من الرسائل الممتدة من غزة إلى لبنان، بل اقترب القصف أكثر من الدير، ليتركوه جميعًا وقد تصدعت جدرانه وسقطت أيقوناته وزجاجه، الذي يجلس الأب توفيق الآن فوق بقاياه ويطأ عليها بقدميه بعد مرور نحو شهرين، فتذكره بكل ما مضى.

Image After Edit (1)

فقد عاد الأب توفيق والبقية إلى مدينة صور بعد الهدنة، أواخر نوفمبر الماضي، وعادت 50 عائلة تقريبًا إلى "ديرميماس"، وفقا لجورج نقاد (رئيس البلدية) الذي لخص المشهد الحالي للبلدة وهو نفسه سبب عدم رجوع الآخرين: "على أطراف البلدة الكثير من البيوت تهدمت، والبنية التحتية بها مشاكل في المياه والكهرباء، التي تؤمن مؤسسات جزء منها، كما أن البلدة نسبيًا تحت الاحتلال، ممكن يدخلوا بدورياتهم عليها متى أرادوا".

يكمل "جورج" بنبرة حزينة وعاجزة، "لم نضع حتى الشجرة مثل كل عام.. هذه الحرب ليست كغيرها، ليست كحرب 2006 عندما عادوا الناس جميعًا دون تأخير ورجعت الحياة لطبيعتها سريعًا"..

ومن بين القلائل العائدين فور اتفاق الهدنة، كانت رامونا حجي وأسرتها، الذين نزحوا إلى بيت أقاربهم ببيروت لمدة شهرين. تقول رامونا، وهي موظفة بالبلدية: "هناك كان شعور بعدم الراحة والقلق، لكن هنا الراحة والاطمئنان"..

تعيد رامونا تنظيف وترتيب بيتها من جديد، فلحسن الحظ لازال موجودًا. وفي الخارج، لم يحترق الزيتون بحقول عائلتها، لكنها وجدته مهملا ولا نفع منه، فقد انتظر كثيرًا ولم يٌقطف في موعده خلال شهر أكتوبر بسبب "النزوح وخوفًا من وجود قنابل بين أغصانه"، كما توضح "رامونا"، وهو ما سبب لها خسارة مادية كبيرة، زادت من أعبائهم التي خلقتها الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ خمس سنوات في لبنان.

لكنها تحاول أن تتجاوز ذلك وتحتفل بعيد الميلاد وتحضر عشاءه لعلها تنسى ما مروا به، تلك "الليالي الصعبة والمؤلمة"، حسب وصفها، وأن تفعل شيئا احتفاليا للأطفال ليشعروا بالعيد، ومنهم ابنتها ذات الـ3 سنوات.

يفعل الأب توفيق الشيء نفسه، يحاول أن يخفف على الناس حوله بمدينة صور ببعض مظاهر العيد، على أمل أن يعود إلى "ديرميماس" ويواصل ما يفعله معهم، فيختم حديثه وكأنه يبوح بأفكاره بصوت عالِ: "سألت نفسي هل يمكن أن نحتفل ونقيم الشجرة في ظل الوضع الحالي؟، أجبت: نعم، فرغم كل شيء، الرجاء والإيمان والأمل لا يموتون، فرحة العيد لا يقدر أن يسرقها أحد، والميلاد رمز أن الحياة يمكن أن تبدأ من جديد".

اقرأ أيضا:

رحلة عاهد: من بساتين الكرز إلى النزوح والدمار في لبنان

على طريق النزوح.. ما تكشفه رسائل لبنان في 48 ساعة

تفاعلي|تحدث مع لاجئة سورية في لبنان وتعرف على خياراتها: الطريق لمعبر العودة

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان