"نهاية الصحراء".. صوت المهمشين في الجزائر!
كتب- سمير محمود:
في روايته نهاية الصحراء الصادرة عن دار هاشيت أنطوان - نوفل، لبنان عام 2022، والتي فازت بـ جائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2023 فرع "المؤلف الشاب"، يستعيد الكاتب الروائي الجزائري سعيد خطيبي نهايات الثمانينات في الجزائر بتقنية الرواية البوليسية المثيرة، التي تمزج بين وقائع التاريخ وخيبات ومرارات وانكسارات الحاضر في مرحلة ما بعد الاستقلال، وتحديدًا في بلدة قريبة من الصحراء في الجزائر عام 1988، وخلالها يعبر الكاتب عن محنة جيل ينتمي له، هؤلاء الحالمين بوطن أكثر حرية وبراح، فإذا بهم يصطدمون بخيبات لا نهائية وجرائم تفوق زمن الاستعمار، فكان الحصاد الاستبعاد والتهميش، واندلاع ثورة الغضب في البلاد احتجاجا على تدهور الأوضاع المعيشية.
نحن أمام سردية تجمع بين الواقع والرمز بامتياز، فموت المغنية زكيّة زغواني أو "زازا" التي مغنّية تعمل في أحد الفنادق، وتم العثور على جثتها ملقاة في أوّل الصحراء، وهي سردية طويلة بنيت شخصياتها بإحكامها ولا يمكن أن تمنح إحداها دور البطولة، فالمغنية رغم أنها ميتة تظل أشبه بلعنة تطارد شخصيات العمل، وتلاحق المحقق والمشتبه بهم والمتهمين خلال رحلة البحث عن المتورطين في قتلها، وتبرز بقوة لغة الراوي العليم، وتركيزه على طرح منظور مختلف بأبعاد فلسفية وأخلاقية للجريمة والعقاب، وصور لا نمطية للحب والصحراء الجزائرية مسرح أحداث الرواية، ويكشف ببراعة الفارق بين الماضي المشرق بصور شهداء الاستقلال والتحرير، مقارنة بالحاضر المظلم بصور الجناة تجار الثورة وسارقيها.
تتميز بنية السرد في نهاية الصحراء بالإحكام والتدفق وتجمع بين التشويق والاثارة، وقد أستطاع المؤلف أن يستدعي الماضي الاستعماري وتاريخ حرب التحرير الجزائرية، ويضعه في مواجهة الحاضر حيث ورثة الاستقلال، خلال مدى زمني قصير جدًا مدته شهر واحد هو عمر أحداث الرواية، وفيه أبدع الكاتب في فضح خيبات الحاضر التي تخضب بدماء الجموع الحالمة بغد مشرق، فإذا هي ضحية لسماسرة حرب الاستقلال.
المغنية وهي نموذج نسائي لفظه المجتمع ولم تلحق دورها في طابور الهروب والهجرة إلى الشمال، يبدو موتها رمزيًا يفضح تردي وضعيّة المرأة في مجتمع ذكوري بامتياز، مجتمع يشهد تحالفات عفنة بين المال والسلطة تارة وبين السياسة والدين تارة أخرى، ليبرز الوجه القبيح والزائف للحياة، ومن أجواء ذلك ما عبر عنه الكاتب:
الفتاة التي لا يفهم حبيبها رغبتها في الغناء، لأن امرأه تعمل في الغناء هي عاهرة، بُعرف المجتمع: "ماطلت أسبوعين قبل أن تُبلغني بمهنتها الجديدة وتُدشّن الخلافات بيننا. سألتها ذات مرة: تُريدين أن تصيري عاهرة؟ فأجابتني: وحدهم الأنذال يصفون امرأة بالعاهرة".
لغة الروائي من أبرز سمات العمل، فقد طوعها المؤلف لتناسب شخصيات العمل تمامًا، كما طوعها لتبرز أن قتل المغنية "زازا" لم يكن جريمة واحدة، ولم يكن الجاني شخصًا واحدًا، وبالتالي تتسع دائرة الجناة والمتورطين والمشتبه بهم، ومن أجواء الرواية نقرأ على لسان إحدى الشخصيات: "«لست وحدي من كتم صوت زكيّة، بل شاركتْني حبيبتي تلك الفعلة، مثلما شارَكَنا فيها إخوتها الذين نبذوها، بشير الذي أخلفَ وعده بالزواج بها، الشيخة ذهبية التي كادت لها، ميمون الذي زاد من غرورها، إبراهيم الذي زرع في قلبي رغبة انتقام منها، وحميد الذي أوهمها بحمايتها."
"نهاية الصحراء" رواية حافلة بتساؤلات حائرة لا تنتهي على لسان شخصيات العمل، الذين باتوا رمزًا فاضحًا للموت والعنف، في حين تبرز المغنية الضحية "زازا" رمزاً للحياة بل وربمًا للجزائر التي تصارع فيما بعد الاستقلال: ومن أجواء الرواية نقرأ أسئلة: (برهوم، عاشور، حميد، ميمون، بوستة، حليمة، نورة، فضيل، الشيخة ذهبية، فوزي، وناسة، كمال، بنسالم، بن قدور، دراجي عوينة، مرزاقة) حول مقتل المغنية "زازا"، فهذا بشير حبيبها يتساءل: هل اشتاقت إلي قبل أن يستعجلها أجلها؟ لا أصدق أنّها تركتني وفاضت روحها، هل انتقم منها مالك فندق الصحراء لأنها تجسست عليه أو كشفت سرّاً يعنيه؟ أما مفتش الشرطة فيردد: لماذا تستر عليها مالك الفندق؟ لماذا لم تكن المرحومة مطمئنة لمن عملوا معها؟ ويتساءل صاحب محل أفلام الفيديو إبراهيم: لماذا أخفت عنها أمي شكوكها في تورّط المغنية الشيخة ذهبية في اغتيالها؟
وفي حين بقت التساؤلات بلا أجوبة، لتوسيع دائرة الفوضى المعبرة عن ارتباك المشهد في جزائر ما بعد الاستقلال، برزت مواقف المؤلف الحاسمة في أكثر من موضع، إذ يصف المدينة الجزائرية بقوله: "إنها مدينة تحفل بالغريب إلى أن يصير مبتذلا"، ويقول: في هذي البلاد الحوت يأكل الحوت وقليل الجهد يموت"، وهكذا ماتت "زازا" وتموت الحياة في الجزائر صباح مساء!
فيديو قد يعجبك: