بالصور- يشتري الخُضار ويقابل الناس.. لمحات من أيام "يحيى حقي" الأخيرة
كتبت-رنا الجميعي:
تصوير-حسام دياب:
ذات يوم من شتاء نوفمبر عام 1985 كان المصور -الشاب وقتها - حسام دياب على موعد مع الكاتب يحيى حقي، برفقة زميله المحرر الثقافي مصطفى عبد الله لإجراء حوار لجريدة الشرق الأوسط، بقلب ينبض بالفرح اتجّه دياب نحو منزل صاحب قنديل أم هاشم الكائن في منطقة مصر الجديدة، ومن الوهلة الأولى علم دياب أن الأديب الكبير ذو الابتسامة الناصعة جاء من "زمن الطيبين"، وجاءت صوره توثيقًا لحياة الرجل البسيط الودود.
دخل دياب وعبدالله إلى المنزل، ورحّب حقي بهما كثيرًا، كان يرتدي بدلة وممكسًا بعصاه الشهيرة، ومنذ اللحظات الأولى أسر حقي قلب دياب كما يقول، على الفور شعُر بأنه يتعامل مع شخص يألف روحه كثيرًا، حملت عيون دياب محبّة كبيرة لصاحب "البوسطجي"، انبهر من بساطته، وروحه التي شبهها بـ"طفل كبير".
لم تكن تلك المرة الأولى التي يقابل فيها الشاب دياب كاتبًا، فقد قابل قبل ذلك أدباء كُثر من بينهم نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، الذي كان صديقًا لهم، وقد كان لديه تخوفًا طيلة الوقت من الكتاب الذين يُحبّ كتابتهم "بكون خايف لما أقابلهم أتصدم في شخصياتهم، ومتكونش شبه اللي كونته عنهم من خلال القراية"، لم يُخيب محفوظ وعبد القدوس ظنّ دياب فيهم، وكذلك يحيى حقي.
لم يتصنّع حقي أبدًا خلال مقابلة الصحفي والمصور له، حتّى أن ابنته الكبرى نهى جاءت لتُشاكسه أثناء الجلسة، فقالت له ضاحكة "يا بابا لازم تهتم بلبسك أكتر من كدا"، فردّ عليها حقي قائلًا "منا حلو أهو"، إلا أنها أشارت إلى الكرافتة التي لم تبدو في وضعها الصحيح، فقال لها حقي مُبتسمًا "طيب تعالي اربطيها"، وبين يديها التي تُعدّل الكرافتة جلس حقي مُستكينًا "زي الطفل كدا وسعيد وكان ماسك العصاية بتاعته"، يذكر دياب.
وبسبب بساطته تلك تلهّف دياب لقضاء وقت أكثر مع حقي، فسأله "يومك عامل ازاي يا أستاذ يحيى؟"، وطلب منه التقاط صور له خلال فقرات يومه، فاجأه دياب أنه يشتري مُستلزمات البيت من خضروات وفاكهة بنفسه، وبالفعل رافقه دياب خلال مشواره الاعتيادي، كان حقي يسير بين الناس مُبتسمًا في وجه الجميع، مُتحدثًا إليهم سواء كان يعرف الشخص أو لم يعرفه، وفي الطريق قابل حقي دكتور حمدي السيد-الذي شغل منصب وزير الصحة فيما بعد-، وتبادلوا أطراف الحديث.
قضى دياب بُصحبة حقي يومان، في اليوم التالي لم يذهب صاحب أم العواجز إلى السوق، ولكنه ذهب برفقة زوجته الفنانة التشكيلية الفرنسية "جان ميري جيهو" إلى مطعم الأمفتريون، الموجود بشارع إبراهيم اللقاني في مصر الجديدة، وبرغم ما شاهده دياب من لطافة حقي، لكنه اندهش حين رأى النادل يُعامله كأنما هما صديقان قديمان، وما إن انتها من الحديث، حتى توجه حقي وجان نحو مكانهما المُفضّل، واستمتعا بضوء الشمس الذي فرض أجواء دافئة على برودة الأيام الشتوية.
للأسف لم يُقابل دياب صاحب دماء وطين سوى لمرتين، بعدها انشغل المصور الشاب، ورحل حقي في التاسع من ديسمبر عام 1992، لكنّ دياب حينما علم برحيله عزّى نفسه أن حقي لم يُحبط آماله في مقابلة رجل عظيم ذو مُنجز أدبي لا يقلّ عظمة عن صاحبه، كما امتنّ لمُقابلة الأديب في ذلك الزمن الذي كان فيه لازال شابًا في مُقتبل العمر، تُقابله الحياة بوجهها القبيح أحيانًا، وتمنّ عليه بوجه أخفّ من خلال مقابلة هؤلاء الرجال الكبار مقامًا "وقتها لما شفته في التسعينيات حسيته من زمن الطيبين"، وكان حقي واحدًا ممن جعلوا دياب يُكمل رحلته الطويلة، يستمدّ منهم الإصرار والعزيمة، كذلك الأمل وروح الحياة الحلوة "لما كنت بقابلهم كنت ببقى عايز أكسّر الجبل".
بعد ذلك استعاد دياب ثانية صُوره التي التقطها لحقي، ونشرها في جريدة المصري اليوم في ذكرى وفاته الثالثة عشر، عام 2005، وإلى الآن لازال شيخ المصورين يُعيد قراءة روايته الأشهر "قنديل أم هاشم"، مُسترجعًا أجواء الرواية التي تجري أحداثها في حي السيدة زينب، ومُتخيلًا نفسه واحدًا من سكان المنطقة الشعبية، ذاك الحُلم الذي يُخايله منذ زمن ولازال يطوف أمام عينيه.
فيديو قد يعجبك: