في وداع مُريد البرغوثي.. "سنُحبّك أكثر"
كتبت-رنا الجميعي:
اليوم يتنافس المُحبّون في إظهار تلك المحبّة لبعضهم البعض، احتفالًا بـ"الفالانتاين"، وفي ذلك اليوم تحديدًا رحل عنّا الشاعر الفلسطيني، مريد البرغوثي، الذي لم يكن في حاجة ليوم مُحدد حتى يشعر بذلك الحُب، أو يُظهره للعالم، لم يخجل يومًا من قول أحبك لرفيقة عُمره، الكاتبة المصرية رضوى عاشور، بكل السُبل الممكنة.
رحل مريد عن عمر يناهز الـ77 عامًا، في العاصمة الأردنية عمّان، ليلتقي برضوى، التي غادرت قبله بنحو سبع سنوات، واللذان شكلا معًا قصة حيّة عن كيف يحيا الحُب ويعيش في القلوب، رغم مرور السنوات والأزمات والنكبات التي عاشها الزوجين منها؛ رحيل شريك الحياة نفسه.
التقى مريد ورضوى على سلم المكتبة المركزية، بجامعة القاهرة، وقتها انتبهت رضوى لذلك الطالب الذي يُلقي الشعر، وحينها توقفت عن المحاولة في كتابة الشعر، عندما تأكدّت أن ذلك الطالب يكتب شعرًا حقيقيًا، تلك كانت المرة الأولى التي ترى فيها رضوى حبيبها، ولم تكن بآخر مرة.
في عُمر الشباب أحبّ مريد رضوى وأحبّته، وكان جُرمًا كبيرا، فالفلسطيني الذي وُلد في الثامن من يونيو عام 1944، وتلقى تعليمه في مدرسة رام الله الثانوية، وسافر إلى مصر عام 1963، ليدرس بقسم الإنجليزية في جامعة القاهرة، لم يكن يعلم أن سنة تخرّجه سيكون عام شؤم، ففي 1967، عام النكسة، مُنع مريد كواحد من الفلسطينيين الموجودين خارج بلادهم، وتُصبح مأساة حياته هي الشتات والبقاء خارج وطنه.
لم يمنع ذلك رضوى العنيدة من حُبّه، رغم معارضة أسرتها لذلك الحب، وفي اليوم الموافق 22 يوليو عام 1970 عُقد زواج المُحبيّن، في تلك الظهيرة أصبح الاثنان عائلة كما قال مُريد ذات مرة، وألحق تلك الجملة بـ"وضحكتها صارت بيتي".
كان يُمكن أن تسير أمور مريد على ما يُرام بعد ذلك، ربما لتمكّن من قبول فكرة اضطراره عن البعد عن الوطن، لكن الفلسطيني لم يكن مكتوب عليه سوى الشتات دائمًا وأبدًا، ظلت الحدود تُفرّق بينه وبين حبيبته، التي كتب لأجلها قصيدة نُشرت في مجلة الكاتب في أوائل السبعينيات على ثلاث مرات، قصيدة كانت بعنوان "رضوى"، قال فيها: "على نَوْلِها في مساء البلاد\ تحاول رضوى نسيجًا\ وفي بالها كل لون بهيج\ وفي بالها أمّة طال فيها الحداد".
لم يقُل مريد كلمة أحبّك لرضوى بين قصائده، ولكنّه قالها أيضًا بكل المفردات الممكنة وغير الممكنة، فبجانب تلك القصيدة، كتب قصائد عديدة أخرى في حُبّها، ذلك الذي كُتب عليه المنفى، حيث استمرت معاناته، حتى أنه اضطر لمُغادرة مصر أيضًا؛ ففي عام 1977 تم سجنه ثم ترحيله، بعد زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل، وظل ممنوعًا من العودة لمدة 7 سنوات كاملة، حيث أخذته الطائرة إلى المجر.
وفي نفس عام الترحيل جاء ابنه الوحيد إلى الحياة، والذي أخذ عنه عفريت الشعر أيضًا، وُلدت رضوى "تميم" ووالده كان بالمنفى، اضطرت لأن تحمل ابنها وهو في عمر شهور، لرؤية والده الذي قاسى البُعد، وبعد السبع سنوات لم يُسمح له أيضًا بالإقامة في مصر، اضطر لتحمّل عشر سنوات أخرى من البعد باستثناء زيارة سنوية لمدة أسبوعين فقط.
تلك القسوة التي عانت منها الأسرة الصغيرة، تم تمريرها تلقائيًا إلى الابن، الذي انفجر بالشعر العامي، لقصّ حكايته الشخصية "أمي وأبويا التقوا والحر للحرة\ شاعر من الضفة برغوثي واسمه مريد\ قالوا لها ده أجنبي\ ما يجوزش بالمرة\ قالت لهم يا عبيد اللي ملوكها عبيد\ من امتى كانت رام الله من بلاد برة\ يا ناس يا أهل البلد شارياه وشاريني\من يعترض ع المحبة لما ربّي يريد".
ولم تكبر تلك الأسرة أبدًا عن أفرادها الثلاث، فلم يُفكّر مريد ورضوى في إنجاب ابن ثانٍ، فكيف له هو الممنوع من العودة طوال تلك السنوات، حيث قال في إحدى الندوات "أصبح لدي ابن واحد فقط بسبب أنور السادات الذي طردني من مصر لسبعة عشر عامًا، فكان من الجنون التفكير في إنجاب طفل ثان، وأنا أعيش في بلد وزوجتي في بلد آخر، وتتحمل العديد من الأعباء ككاتبة وأستاذة جامعية وأم وناشطة سياسية".
سارت المُعاناة بجانب الحُب كرُفقاء تلك العائلة، وظلّ قلب مُريد ينبض تجاه امرأة واحدة تُدعى "رضوى"، ولم تتوقف النكبات كذلك أيضًا، صحيح أن مريد تمكّن من العودة لرام الله في أواخر التسعينيات، وكتب سيرته الذاتية "رأيت رام الله"، والتي فاز عنها بجائزة نجيب محفوظ عام 1997، ولكنه ظلّ يُعاني برفقة رضوى التي حاربت المرض لمدة 35 عامًا، حتى قضى عليها ورم في الدماغ وهي في عمر الثامنة وستون.
وبعد رحيلها، في نوفمبر 2014، راح مريد يغزل نَوْلِه أيضًا في حُب رضوى، مرّات بدأبه على نشر أعمالها الأدبية التي لم تُنشر في حياتها، ومرات أخرى بكتابة قصائد في حبها. حتى أنه قال في حفل تأبين لها في جامعة عين شمس، التي عملت فيها رضوى كأستاذة طيلة حياتها الأكاديمية، "من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب، ينشغل عن المحبوب، الآن أطلب من حزني أن يتّجه إلى أقرب بوابة ويغادر، هادئًا كما أشاء، أو هادرًا كما يشاء"، ثم يقول لها أيضًا "لست أنت المهم اليوم، ولا أنا أيها الحزن، أنا منشغل بها لا بك أنت".
لا نعرف لماذا أحبّ مريد رضوى، هل لملامحها الدقيقة البريئة، ولا لضحكتها المُضيئة التي قال عنها مرارًا "عودي يا ضحكتها عودي"، ولا لروحها المُثابرة وعيونها الذكية اللمّاحة، ولا لصوتها الذي طالما لم يخشْ قول الحق أمام المُستبدين، وهم كُثر، ولكن ما نعرفه أن مُريد قد لحق بحبيبته حتى يُدفئ جسدها الصغير من البرد، كما قال: "خلف أزرار هذا القميص الخفيف\ أواصل أشغال من ظلّ حيًا\ أُدفئ رضوى من البرد".
فيديو قد يعجبك: