عام الوباء.. كورونا يضيء شمعة ميلاده الأولى بمصر على نغمات الفلانتين
كتب وصور- عبدالله عويس:
بينها وبينه حجاب. ثمة ألف زهرة في المكان لكن عبيرها لا يصل أنفه. كمامة زرقاء تحول دون ذلك. ورودٌ مُنسقة للعشاق، في صباح عيد الحب، يقف أمامها محمد مصطفى، لكنها لم تُتخطف كالعادة، بفعل الفيروس الذي طاف العالم شرقه وغربه، وحاصر الناس في بيوتهم، تماما كما فعل مع رائحة الورد وعبير الحب، الذي حدد العالم يوم 14 فبراير من كل عام للاحتفال به. التاريخ عينه صار ذكرى ميلاد كورونا في مصر، حين سُجلت أول حالة مصابة بـ"كوفيد19" على أرضها في اليوم نفسه من فبراير العام الماضي.
صباح اليوم، حيث يحتفل العالم بعيد الحب، كان مصطفى يقف على أعتاب صيدلية، فرضت على زوارها الوقوف بالخارج، منعا للتقارب الجسدي، خشية الوباء الذي أصاب نحو 110 ملايين شخص حول العالم، وأودى بحياة أكثر من مليوني شخص. كانت خطة الشاب لليوم بسيطة، شراء كمامات باللون الزهري من الصيدلية، وبعض الحلوى والهدايا من متجر قريب، ووردة اختار أن تكون حمراء، فهي الأكثر تعبيرا عن الحب، ولن تقبل خطيبته بلون مختلف. رغبته في الكمامات زهرية اللون، كانت لكسر الشكل السائد للكمامة الطبية الزرقاء، والتي أصبحت في كل مكان، خلال العام المنصرم، بعد فرض مجلس الوزراء إجراءات مشددة على المواطنين لارتدائها في عدد من الأماكن، ومعاقبة المخالفين بغرامات تبدأ من 50 جنيها.
ما بين فبراير 2020، وفبراير 2021، ثمة متغيرات كبيرة طرأت على المجتمع المصري، الذي ما يزال ينزف تحت وطأة فيروس «كورونا المستجد»، اقتصاديا وصحيا ونفسيا. مرت سنة ثقيلة، أصاب فيها الوباء أكثر من 170 ألفا، وسلب أرواح نحو 10 آلاف مواطن، وما يزال شبح الوباء قائما، يبغضه المصريون ويكرهون زيارته لأجسادهم، فيما يذكرهم هو بميلاده على أرضهم في عيد الحب.
منذ عام تقريبا، لم يكن مصطفى يرى من يرتدي أي كمامة طبية في مصر سوى الأطباء، حتى أنه لم يكن يعرف أنها تباع في الصيدليات بسعر زهيد لا يتخطى النصف جنيه، ومع بداية أزمة كورونا في مصر، ارتفعت أسعارها بشكل كبير لتصل إلى 10 جنيهات، ولم تكن متوفرة في الصيدليات والمتاجر التي تبيع المستلزمات الطبية، كذلك كان الكحول، ومعقمات اليد، التي اختفت سريعا، ثم عادت للظهور بإنتاج كميات أكبر، وانتشرت حتى صارت تباع على الأرصفة، في مشهد لم يكن أحد ليتخيله: «مفروض إني هقابل خطيبتي ونقعد كام ساعة سوا، لكن الاختلاف بين السنة دي والسنة اللي فاتت في شكل الاحتفال كبير» يحكي الشاب الذي أتم 30 عاما، ويوشك أن يتزوج في بضعة أشهر.
في مارس الماضي، اتخذت الحكومة عدة قرارات بشأن انتشار كوفيد-19، أغلقت المساجد والكنائس، والسينمات والمسارح، والمقاهي والمطاعم، وفرض حظر تحرك ليلي، ووقف مؤقت لوسائل النقل، ليحدث الأمر تغيرا كبيرا في الشارع المصري، ويفرض على الناس شكلا مختلفا من المعيشة، لم يعهدوه في بلد صاخب يهوى أهله السهر والسمر في الليل، في الميادين العامة والمطاعم في الشوارع الرئيسية، وبات الخوف من الإصابة هاجس كثيرين، استسلموا لدعوات البقاء في المنازل، لكن مصطفى كان يبحث عن فرصة للتنزه مع خطيبته، بعيدا عن الأماكن المغلقة، وكان عليه أن يراها وهي ترتدي الكمامة، ولا تصافحه ومن بينهما مساحة كافية آمنة للتحدث: «كلنا كنا في رعب وهي كانت قلقانة جدا، فكنت عشان أشوفها نتمشى على الكورنيش، نقعد في مكان عام، لكن مكنش في أماكن متاح لينا نقعد فيها زي الأول» يحكي الشاب الذي حمل الكمامات زهرية اللون من صيدلية قريبة من منزله بحي شبرا بالقاهرة، واتجه إلى محل يبيع الهدايا ليشتري منه ما يعجب خطيبته.
مع اتجاه مصر لخطة التعايش مع الوباء في يونيو الماضي، وهي الفترة التي شهدت ذروة انتشار الفيروس في موجته الأولى في مصر، كان عماد السيد، قد ضاق ذرعا بإجراءات الإغلاق المبكر للمتاجر، وبحظر التحرك الليلي، فمن شأن كليهما تعريضه لخسائر كبيرة، لعدم رواج بضائع محل الهدايا الذي يملكه، وكانت تلك الفترة التي سبقت خطة التعايش تحمل خسارة كبيرة له: «البضاعة كانت شبه مبتتحركش، الناس مبتنزلش ولا تتقابل، والخوف من كورونا كان مقعد الناس في البيت، فمين هيشتري هدايا» يحكي الشاب الذي صارت بعض السلع لديه تشهد رواجا مع اقتراب المناسبات، وإن لم يكن الحال كما كان قبل زمن كورونا. وكانت الرهبة من الفيروس تقل في الصدور شيئا فشيئا بحسب عماد، الذي كان يوم عيد الحب مناسبة لطيفة له لبيع بعض الهدايا، وإذ يقارن الشاب مبيعات هذا العام بسابقه فإن المقارنة ظالمة وفقا له: «لو بعت ربع اللي كنت ببيعه قبل كده يبقى كويس جدا، الظروف مش مساعدة وحالة الناس الاقتصادية برضه مش أحسن حاجة». ما يحكيه البائع يتفق مع تصريحات سابقة لبركات صفا، نائب رئيس شعبة الألعاب والأدوات المكتبية، أن قالها في نهاية 2020، بانخفاض حجم استيراد هدايا الكريسماس بنسبة 80% عن الأعوام السابقة، والوباء هو المتهم.
حصل محمد مصطفى على هدية تليق بمحبته لخطيبته، ثم اتجه لشراء ورود حمراء اللون، هناك أجبره البائع على ارتداء كمامة طبية قبل دخول المحل، ليمتد الحديث عن الكمامات إلى عام كورونا، الذي أثر بشكل كبير على عمل الرجل، فالمتنزهات التي أغلقت لفترة طويلة، والمطاعم والكافيهات التي شملها الإغلاق فترة، وإغلاق دور المناسبات، وقاعات الأفراح، تسببت جميعا في تراجع مبيعاته بشكل كبير، وأثرت بشكل أكبر على مزارعيه، الذين كانوا يعتمدون على بيعه محليا أو تصديره، ومع توقف حركة الطيران وإغلاق العالم حدوده أمام بعضه البعض، كان المزارعون يضطرون أحيانا لحرق الورد أو فرمه، وفي تلك الأثناء كان فوزي عبد الحميد صاحب محل الورد، يشتري كميات قليلة، لكنها أيضا كانت تتلف لتأخر بيعها: «الخسارة كانت كبيرة، يمكن دلوقتي رجع البيع شوية، لكن مش هتقارن ده بأيام ما قبل كورونا خالص» يحكي البائع، الذي كان يبيع أحيانا الورد للذين أقاموا أفراحهم في المنازل، أو على الكورنيش، بعيدا عن الأماكن المغلقة.
خلال هذا العام تغيرت كثير من طباع المصريين، وإن لم يكن ذلك وفق أمزجتهم. فرض الفيروس عليهم ذلك. نصائح لا تنفك تتحدث عن غسل الأيدي وتعقيمها في كل حين. تباعد جسدي، الأحضان ممنوعة، القبل والمصافحة أيضا ممنوعة، الخروج من المنزل لا يكون إلا بحساب، على أن هذه الالتزامات لم تكون متبعة بشكل كبير حال ظهور أول إصابة في مصر، إلا أنها صارت متبعة بعد مشاهد اكتظاظ المستشفيات بالمرضى، خلال يونيو ويوليو الماضيين، ثم تراخى الالتزام بالتعليمات الصحية قليلا، مع انقضاء الموجة الأولى، وبوجود الموجة الثانية مطلع العام الجاري، عاد الالتزام قليلا، ثم توارى من جديد، ولم يكن محمد، الذي على وشك مقابلة خطيبته، بعيدا عن ذلك كله: «كورونا غير فينا حاجات كتير، بس أسوأ حاجة عملها إنه خلاك تخاف من أقرب الناس ليك، وخايف عليهم كمان، اللي هيتصاب هيعدي الباقي اللي في محيطه» يحكي الشاب، الذي قرر أن تكون إحدى السينمات المطلة على كورنيش النيل، مكان قضاء أول ساعات عيد الحب رفقة محبوته، ثم قررا أن يكون بقية يومهما في محيط وسط القاهرة، بالتمشية حينا والجلوس أحيانا في المقاهي أو المطاعم.
فيديو قد يعجبك: