عثرت على المفقود من "بقايا خوفو" .. حكاية مصرية لمع نجمها في اسكتلندا
كتبت-إشراق أحمد:
داخل الغرفة الملكية للهرم الأكبر "خوفو"، العام 1872، يتشارك مهندس إنجليزي يدعى واينمان ديكسون متعته في الاستكشاف مع صديقه الطبيب جيمس غرانت بيه، يجريان مسحًا للأثر، يتفقدان تفاصيله لعمل خريطة له، وبينما يرافقهما الفضول، يعثران على ثلاث قطع؛ خطاف برونزي، كرة حجرية، وقطعة خشبية صغيرة. احتفظ عاشقا الآثار المصرية بما اكتشفوه ويعد أحد الأدلة لتاريخ بناء "خوفو"، أودع ديكسون ما لديه في المتحف البريطاني، وذهبت القطعة الثالثة لجامعة ابردين باسكتلندا بعد وفاة غرانت بيه. أعوام وظن الباحثين والمهتمين بالأهرامات أن القطع الثلاث في مكانها، لكن الواقع كان خلاف ذلك.
148 عامًا انقضت على حكاية "بقايا خوفو"، لكن قصة الأهرامات لا تنتهي، في ديسمبر 2020 جاءت عبير العدني، الباحثة المصرية في جامعة ابردين الاسكتلندية، لتعيد اكتشاف القطعة الثالثة التي كانت مفقودة بين مجموعة آثار الجامعة الاسكتلندية، ومعها عاد الحديث حول أهمية تلك القطعة في تاريخ الهرم الأكبر.
كانت لحظة فريدة؛ بينما تراجع العدني مقتنيات أثرية تنتمي لحضارة أسيا، التقطت علبة معدنية صغيرة تشبه علبة سجائر "كنا شغالين على مشروع كبير لمدة سنة بنتأكد من بيانات كل قطعة. نقارنها مع الكتالوج اللي عندنا ونشوف لو في حاجة ناقصة وممكن نعمل بحث ونعرف أكتر عن القطع".
أثناء تفقدها، التفتت الأمينة المساعدة بمتحف الجامعة إلى رسم "هلال ونجمة" على العلبة، كان مثيل للعلم المصري القديم. تؤمن باحثة الآثار المصرية أن التواجد بصحبة المقتنيات التاريخية هو يوم مختلف، مع طلوع النهار تتحمس للعمل، توقن أن ثمة شيء مبهر ينتظرها لاكتشافه، لكنها لم تتخيل وهي على بعد أكثر من 4 آلاف كيلو مترًا عن مصر، أنها ستعثر على قطع خشبية داخل علبة السجائر تلك، ستعيد للهرم الأكبر شيء من تفاصيله المفقودة منذ نحو 70 عامًا، كما جاء في بيان الجامعة المُعلِن عن الكشف الأثري في 16 ديسمبر2020.
التحقت العدني بجامعة ابردين منذ ثلاثة أعوام، لكنها تخرجت في كلية الآثار جامعة القاهرة عام 1991، فيما استقرت في اسكتلندا لاستكمال الدراسة ونيل درجة الدكتوراة والعمل قبل 16 عامًا. لا تلتفت الباحثة المصرية كثيرًا لتواريخ حياتها الشخصية ولا كم أمضت بين الآثار "مش مهم. كل يوم بروح الشغل وأنا مش عارفة هشوف إيه النهاردة وده شيء ممتع ورائع"، لهذا تحفظ ذاكرتها ما تبع الكشف دون تحديد اليوم "كان كل التفكير هنعمل إيه؟"، فقط تشير إلى حدوث ذلك مع نهاية عام 2019 كما تقول في حوارها لمصراوي.
"1637" الرقم المدون على العلبة أكد تشكك العدني تجاه انتماء تلك القطعة لمجموعة البحث "لقينا الرقم قديم مش بنسخدمه، مكنش في أي تماس بينه والأرقام الموجودة في قطع أسيا"، توجهت الباحثة إلى مجلد مجموعة الآثار المصرية. زال ستار الحيرة "في الكتالوج فعلاً لقيت مش بس الرقم، لكن متقال لنا هو ايه. أن دي قطع خشبية كانت موجودة في هرم خوفو".
بإيجاد علبة السجائر تحررت مفاجأتان؛ الأولى العثور على القطعة الأثرية المفقود مكانها في متحف ابردين لأعوام طوال "ناس كتير بتعمل أبحاث عن الهرم الكبير كانوا بيتواصلوا مع الجامعة عشان يبعتوا لهم معلومات عن القطعة الخشبية"، تعلم العدني أن منذ 2001 والرد من أمناء المتحف لم يتغير "أسفين جدًا المفروض القطعة تبقى في المجموعة لكننا مش عارفين مكانها"، تبتسم الباحثة بينما تذكر عروض العديد من الباحثين بإرسال من يبحث عن الأثر المفقود.
الآن أصبحت القطعة بين أيدي باحثين ابردين، انكشفت عنها المعلومات ولما هي مقسمة إل فتات بحجم 5 بوصات "متسجلة كقطع صغيرة عشان لما طلعت من المقبرة اتعرضت للهواء فتحولت لقطع". وأما حكاية الاكتشاف الأولى على يد ديكسون وغرانت بيه فتعود إلى التقاء الصديقان في غضون القرن 19، الأول تواجد في مصر لأعمال هندسية "واحدة منها كانت نقل مسلة كليوابترا"، والثاني كانت مهمته علاجية في الأساس لانتشار الكوليرا في المحروسة أنذاك، لكنه عشق مصر وجمع الآثار وتعلم الهيروغليفية، حتى أنه فتح منزلة في منطقة الأزبكية كمتحف صغير "عشان الناس تيجي تشوف القطع اللي بيجمعها".
اجتمع ديكسون وغرانت بيه على حب الآثار، راحا يستكشفان الهرم الأكبر، عثروا على القطع الثلاث، ورسموا خريطة لـ"خوفو" تحتفظ بها جامعة ابردين كما تقول الباحثة المصرية. كانت القطعة الخشبية بين المجموعة الكبيرة التي أهداها غرانت بيه ومن بعده ابنته إلى الجامعة الاسكتلندية "جت القطع على دفعات الأولى في 1800 وبعد كده 1946"، في الدفعة الأخيرة تواجدت علبة السجائر، عُرفت باسم "بقايا ديكسون" لكن العدني تحرص على توصيفها بـ"بقايا الهرم الأكبر".
تعود أهمية القطع الثلاث إلى كونها تواجدت داخل الهرم وقت بنائه، لذلك كانت الخطوة التالية للعثور على القطعة الخشبية هي "السؤال عمرها قد إيه؟". شهور انتظرت العدني وفريق ابردين معرفة الإجابة، تزامن إرسال عينة البحث مع فترة الإغلاق لتفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد19)، ومع عودة العمل قبل أشهر جاءت المفاجأة الثانية؛ يبلغ عمر القطعة الصغيرة نحو 5 آلاف سنة "ترجع لوقت ما في الفترة من3341-3094 قبل الميلاد - أي قبل 500 عام تقريبًا من السجلات التاريخية التي تعيد تاريخ الهرم الأكبر إلى عهد الفرعون خوفو في 2580-2560 قبل الميلاد" كما جاء في تقرير تأريخ القطعة الأثرية.
غمرت السعادة أرجاء ابردين بالكشف الجديد، تفتح القطعة الخشبية أفاق البحث حول الهرم الأكبر، تزامن هذا مع نهاية عام 2020، فقرر فريق عمل الجامعة ختام العام العصيب "ببعض الأخبار الجيدة"، حلقت الباحثة في السماء "جالي حوالي 500 إيميل في يوم واحد"، حظيت باهتمام إعلامي واسع في اسكتلندا وخارجها، بلغ الصدى مصر والدول العربية "أهلي عرفوا لما اتنشر الخبر فكلموني"، تسعد بأن أصغر أبناء العائلة الذي لا يتعدى خمس أعوام هنأها لمجرد رؤية صورتها بالجرائد.
تضم جامعة أبردين "آلاف القطع الأثرية من مختلف الحضارات من كل أنحاء العالم" بحسب الباحثة المصرية، فضلاً عن تنوعها لتشمل حفريات وآثار جيولوجية، وفنية أيضًا، مما يجعل تيه قطعة صغيرة تعادل راحة اليد "أمر وارد الحدوث"، لكن متى حدث هذا؟. لا أحد يعلم في ابردين كما تقول العدني.
مازالت الباحثة المصرية تتلقى حتى اليوم مِداد رسائل من التهنئة وكلمات ودود واستفسارات بشأن عثورها على الكشف الجديد، وتواصل معها باحثين استمروا في السؤال عن القطعة لنحو 20 عامًا، لكن لم تستقبل اتصال من جهة مصرية رسمية حسب قولها، لا تلتفت العدني لهذا، بالكاد تستوعب ما جرى، تعتبر نفسها "محظوظة"، فطالما كانت دراستها الأكاديمية ورسالة الدكتوراة وتخصصها العملي ينصب أكثر على المومياوات، ولا علاقة له بالأهرامات، لكنه القدر الذي أعاد إليها مشاعر مثيلة انقضى عليها 26 عامًا.
عملت العدني في المتحف المصري بمنطقة التحرير لنحو 10 أعوام، تزامن بداية عملها مع مشروع كبير "كنت بشتغل مع مجموعة تجهيز قاعة عرض المومياوات الملكية اللي اتفتحت للزوار لأول مرة عام 1994"، تتذكر الباحثة المصرية كم كانت ضمن فريق كبير تحت قيادة المرمم المصري دكتور نصر إسكندر لعمل العارضات "الفاترينات" الخاصة المغلفة بالنيتروجين بدلاً من الاكسجين للحفاظ على المومياوات.
تبتسم الباحثة في جامعة الاسكتلندية بينما تستعيد حالها مع أول مشروع لها "مكنتش عايزة اسيب القاعة لحظة"، لمدة شهر واصلت مع زملائها الورديات كي يتواجد من يستقبل الزائرين "كان شيء رائع أننا نتكلم مع الناس ونسمع أسئلتهم".
تُعايش العدني حالة مماثلة مع "بقايا خوفو"، تستشعر مسؤولية يخالطها فخر "يبلغ حد القمر" كما تصف، إذ تُعد السيدة الثالثة في جامعة ابردين التي تترك بصمة مع مجموعة الآثار المصرية بحسب قولها "كان عندنا نساء مهمين جدًا لكن للأسف محدش بيفتكرهم كتير"، تحاول الباحثة المصرية أن تلقي الضوء على مَن مروا قبلها في القرن الـ18 و19، تذكر نورا ماكدونالد وآن كيبل، كلاهما تحتفظ المكتبة الأثرية للجامعة بسجلات بفضل توثيقهم "نورا على سبيل المثال كانت بتكتب عن كل قطعة وتوصفها وتترجم النصوص"، ولهذا ثمة لوحة تكريم تحمل اسميهما في ابردين، تتمنى أن تصبح العدني يومًا ما بينهم.
توقف دور الباحثة المصرية تجاه الكشف الأثري، تحولت المهمة لفريق المعروضات لعله يصبح متاحًا للزائرين ذات يوم، عادت العدني لعملها المعتاد، لكن لا يغيب عنها فضول المتابعة لمعرفة ما ستسفر عنه الأبحاث والدراسات "الآثار المصرية هتفضل جزء من شغلي".
لا مجال لقطع وصال العدني مع الآثار المصرية بشكل عام، تعتبر هذا جزء من هويتها كونها ابنة مصر، فلا غرابة في عشقها وارتباطها بها حتى لو انقطعت زيارتها للقاهرة منذ عام 2005، فمع العام الجديد تحتفظ الباحثة في جامعة ابردين الاسكتلندية بأمنية تأمل تحقيقها "نفسي ارجع وامارس البحث في مصر لأنه شيء ممتع"، فيما ترنو لرؤية المتحف المصري الجديد، تتخيل أن التواجد فيه سيكون أمرًا لا يقل متعة عما شعرت به وقت عملها في المتحف المصري بمنطقة التحرير.
فيديو قد يعجبك: