هل أراك؟| (3).. زارعو الألغام في سوق حيفا (بروفايل)
كتبت-إشراق أحمد:
لا تتوقف الحياة؛ تمضي ومعها صباحات جديدة، لكن ذلك النهار كان غائمًا رغم شمس يوليو؛ تقف المكيدة على الأعتاب، تتخفى داخل سيارتين صغيرتين وتنتظر. يأتي الباعة يفتروش بضاعتهم من خضار وحبوب، ويقبل المشترون. نساء وأطفال، مارة ومن أهل التجمع اليومي، يدور سوق حَيفا في شمال فلسطين، كأن شيئًا لم يحدث قبل نحو أربعة أشهر، حين زُلزلت الأرض تحت أرجلهم بفعل قنبلة ألقاها معتدي، عادوا مرة أخرى متمسكين بمكانهم، وكذلك فعل الغريم، طاردهم بجريمة أكبر، وما إن امتلأ السوق ودبت الحركة قرب العربتين، انفجرت "البسطات" بأهلها.
السادس من يوليو عام 1938، تاريخ لم تنساه حيفا. سجل تنظيم "إيتسِل" أو "الإرغون" الإسرائيلي في دفاتره عملية جديدة، عرفت تجمعات الفلسطينيين العزل صوت المتفجرات من قنابل وألغام، وقد كان يُسمع عنها في ساحات الحروب أو يستخدمها المقاومون وأفراد العصابات ضد العسكريين، لكن في مخطط بني صهيون كل شيء مباح.
لم تكتف المنظمة الصهيوينة منذ عزمت استيطان فلسطين بالتحايل لسلب الأرض، بل سمحت بتشكيل أجنحة عسكرية، عصابات غير نظامية تصدت لثورات الفلسطيين، ومنها ما كونه الشاب الإسرائيلي حينها مناحم بيجن تحت اسم "إيتسِل" اختصار لـ"المنظمة العسكرية القومية في أرض إسرائيل".
انشق بيجن عن الجناح الرئيس المسمى بـ"الهاجاناه"، لكنه لم يختلف إلا في الوسيلة؛ راح أفراده ينفذون ما حمله شعارهم "قبضة اليد الحاملة لسلاح"، وجدوا في القنابل والألغام أداة واسعة المدى لإسقاط المزيد من الضحايا، يقاتلون بها من وراء حجاب ويزرعون الرعب في قلوب الفلسطينيين لإجبارهم على مغادرة ديارهم، لاسيما في مدينة حَيفا الفلسطينية.
كانت حيفَا – ومازالت- ذات موقع استراتيجي مميز، ميناء بحري مهم على شرق البحر المتوسط، هي بوابة للعراق والأردن وسوريا، لم تكن تتوقف الحركة على شواطئها، حتى أن التجارة فيها قُدرت عام 1936، باستيراد يصل إلى أكثر من 756 ألف طنًا، فيما تجاوزت الصادرات المليون طنًا، لذا لم تغب عنها الأسواق.
حول مسجد "النصر الكبير" أو "الجرينة" تمركزت الحياة في حَيفا، أمامه استقر سوق الحبوب وفي الشرق منه عُرف سوق السمك، أما في الغرب تواجد سوق الخضار، وإليه يعود مكان "مجزرة سوق حيفا" كما وصفتها الوثائق الفلسطينية.
21 فلسطينيًا سقطوا جراء انفجار السيارتين الملغمتين، وأصيب نحو 52 أخرين، تناثرت الأشلاء في السوق محل البضاعة. صدمة هزت نفوس الفلسطينيين، تأكد لهم أن المعركة لم تعد في ساحات التظاهر بين الثوار وجنود الانتداب البريطاني، ولا في أرجاء القتال المسلح بين المقاومين و"الهاجاناه"، ما عادت الصدور مفتوحة، بل يأتيها الغدر على يد عصابات غير معروفة في قلب مأمنها، بينما يشتري صاحب العقال الفلسطيني كيلو من الطماطم أو التفاح.
سُلبت السكينة من أسواق حيفًا، انقضى شهر يوليو بدماء نحو 103 فلسطينيًا و122 جريحًا، خلفتهم ثلاثة انفجارات. كان الفلسطينيون يتجمعون حول الضحايا في صمم، لم تكن الأبصار ذاقت رؤية المجازر بعد، وصُف المشهد في سجل مصور حينها "شهيدين في حادثة القنبلة الثانية في سوق الخضار بحيفا. أحدهما ملقى على الأرض وقد أحدثت القنبلة تجويفًا في صدره والآخر محمولاً على النقالة، والناس في وجوم".
القدس ويافا أيضًا شهدتا بصمات غدر "الإرغون" في يوليو، فقد كانت العصابات الصهيونية تنفذ اتفاق الانتداب البريطاني المعلن قبل عام من ذلك الوقت، حين أوصت لجنة عرفت بـ"بيل" بتقسيم فلسطين لأول مرة، تلك التي شُكلت في أعقاب ثورة الفلسطينيين وإضرابهم لستة أشهر عام 1936، إذ أقرت أن وقف التنازع الواقع لن يكون إلا بتخصيص مساحة لليهود كمحمية بريطانية تُشكل ثلث فلسطين، وتمثل ما بين محيط القدس إلى يافا.
أُطقلت يد العصابات الصهيونية بتبرير من الإنجليز، قالوا إنهم "أقلية يحق لهم الدفاع عن أفنسهم أمام هجمات الفلسطينيين"، وما كذب بنو صهيون الخبر، قُدر عدد الشهداء خلال الأعوام الثلاثة لثورة فلسطين الكبرى بـ5آلاف وأصيب 14 ألفًا، فيما قتل 100 بريطانيًا و400 إسرائيليًا.
انقضت الأعوام، وجماعة "الإرغون" المسلحة ورفاقها على عهدها الدموي، تزرع القنابل والألغام، حتى اُحتلت حَيفا في إبريل عام 1948، وغيرها من المدن الفلسطينية، وأعلن الاحتلال "دولة إسرائيل"، وادمج العصابات في كيانات عسكرية وسياسية.
تبدلت معالم حيفا وأسواقها، حاز مناحم بيجن بعدما تولى منصب رئيس الوزراء على جائزة نوبل للسلام عقب حرب أكتوبر 73، كُرم أمام الشاشات لكن الأرض الفلسطينية مازالت تحمل فعل كيانه المحتل، فهناك نحو 189 حقل ألغام حتى العام الماضي تنتنشر في شمال وجنوب الضفة الغربية، تحصد أرواح العشرات سنوياً، سقطت أسماؤهم من التوثيق في خضم الأحداث، ورحل زعيم "الإيتسل" في التسعينيات، فيما بقي اسم أحمد توفيق الكائد من أم الفحم في حيفا وصورة لأسرته بعد رحيله تشهد على ما جرى على يد "الإرغون" في يوليو من ثلاثينيات القرن الماضي.
المصادر:
*كتاب فلسطين الشهيدة (سجل مصور لبعض فظائع الإنكليز واليهود 1921-1938)/ مكتبة الكونجرس.
*كتاب خط في الرمال بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكل الشرق الأوسط/ للسياسي النيوزلاندي جايمس بار
* فلسطين تصحو لداوود أحمد أسعد، سيرة ذاتية لمهندس فلسطيني مواليد القدس عام 1931 وعاش في دير ياسين.
* الموسوعة الفلسطينية الصادرة عن مؤسسة فلسطين الدولية.
*موقع فلسطين في الذاكرة.
* مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا).
* معالم حيفا العربية/ مقال للمؤرخ الفلسطيني جوني منصور في موقع فلسطين.
*المركز الفلسطيني لمكافحة الألغام/ على لسان رئيسه أسامة أبو حنانة.
أقرأ أيضًا:
هل أراك؟ (1).. "حصّادين" الأرض المقدسة (بروفايل)
فيديو قد يعجبك: