لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"رقصة" مع كورونا.. نفحات الفرحة في مستشفى ملوي للعزل

06:07 م الثلاثاء 30 يونيو 2020

لحظات الفرحة في مستشفى عزل المنيا

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- شروق غنيم:

رسوم- سحر عيسى:

داخل إحدى غرف مستشفى عزل ملوي بمحافظة المنيا، احتّل الصمت جنبات المكان، يستلقي الرجل الخمسيني في انتظار نتيجة مسحته الجديدة، يرجو الله أن تصبح سلبية فيعود سالمًا إلى أحفاده، الانتظار مُر والساعات تمضي بثقِل، لكن كل تلك المشاعر ذابت في لحظة واحدة حينما انبعثت أصوات موسيقى صاخبة من هاتف رفيقه في الغرفة، وكأنها إشارة بكسر الحالة الهامدة، أخذ عصاه الخشبية "ورقص على الأغنية اللي شغالة لوحده"، في تلك اللحظة دخلت الممرضة شيماء محمد للغرفة: "مكنتش فاهمة في إيه، بس مبسوطة وبدأت أشجعه".

1

لازمت تلك الحالة الممرضة الشابة منذ بدأت العمل داخل مستشفى ملوي بمحافظة المنيا، طيلة 11 عامًا من العمل في مهنة التمريض أدركت أن البُعد النفسي رُكن رئيسي في خطوات تعافي أي مريض، فيما لا تخلو شخصيتها من الطابع الفكاهي، في أحلك المواقف تخرج بدعابة فتنتزعها من أي أجواء قاتمة، فيما تنعكس تلك الروح على من حولها.

يوميًا تدبر الممرضة الثلاثينية دوران الحياة داخل المستشفى، في المساء تنام على فراق أحد المرضى، لكن مع الصباح تأتيها البشارة فقد تعافى أضعاف الأمس، ألهمتها الخاطرة بفكرة بدأت تنفيذها داخل المكان إلى أن صار روتينًا يوميًا: "والمتعافين خارجين من المستشفى لازم المصابين يشوفوهم عشان يتجدد الأمل جواهم"، لكن كيف السبيل؟

مع موعد انطلاق أفواج المتعافين من أبواب المستشفى، تُفتح نوافذ المصابين المُطلة على الحديقة، في أول مرة اضطربت مشاعر الممرضة، لا تعلم بعد كيفية استقبال المرضى الموقف، إلى أن اخترقت أذنيها "زغرودة" من الدور العلوي. سيدة ستينية رفرف قلبها بمجرد أن رأت العائدين إلى منازلهم، نادت بعلو صوتها: "والنبي أدعوا لنا"، كان الموقف مليئًا بردود الفعل العفوية، دموع تجري على الوجوه، وألسنة لا تكف عن الحمد، فيما رُدّت الروح إلى نفس شيماء: "وبقى طقس مميز في المستشفى عندنا".

2

من وقتها وصارت لحظة مهمة في يوميات المستشفى؛ يصطف الممرضون والأطباء لتحية المتعافين، فيما تُفتح نوافذ المرضى وينغمسون في الموقف بالتصفيق والدعوات، فيما يرد عليهم المتعافون بالمثل، وأحيانًا يشتري طاقم التمريض وردًا لإهدائه للمتعافين.

كل من مر بالمستشفى يعرف "ميس شيماء"، لا أحد يعرف شكلها لكن لها صوت قوي ممُيز: "وخبطة باب متوهش عن حد"، فضلًا عن ارتفاع طولها وضحكتها المجلجلة. لا فرق بين كبير وصغير في المكان، تعلم الممرضة الشابة أن الكل يحتاج لنفحات الفرحة، لذا حينما اشترت إدارة المستشفى ألعابًا وعرائس للأطفال في رمضان الماضي: "خدتها الأول وبقيت ألعب بيها مع الستات البُعاد عن عيلتهم أو ولادهم.. كانوا مبيبطلوش عياط، لكن في اللحظة دي كله كان بيضحك ومبسوط"، مواقف بسيطة حاول فريق التمريض التهوين على المصابين قدر الإمكان.

تحاول شيماء ورفاقها أن يفوح إحساس المنزل في نفس كل مُصاب، تعلم أنه من الصعب قضاء رمضان أو العيد بعيدًا عن لّمة العيلة، لذا اجتهدت في نقل الأجواء نفسها إلى المستشفى: "ميس سهير مديرة التمريض جابت لنا في العيد كحك وبلالين ونقولهم تخيلوا أنتوا في جنينة أو في البيت واتبسطوا"، في المكان انتشرت البالونات، اشترى أحد الأطباء "سكوتر" لفتاة في العزل، فيما كان من نصيبهم ألعاب ورقية صنعتها ميس شيماء.

تعرف الممرضة الثلاثينية وجع الغيبة وطولها؛ إذ تعيشها هي الأخرى مع أبنائها الثلاثة، تتذكر حين اشتد التعب على أحد أبنائها "كنت بعيّط ومش عارفة أتصرف إزاي"، لكن سرعان ما استعادت روحها المعتادة "كلمته فيديو وبدأت أهديه وأهزر معاه، أعتذر له إني مش قادرة أكون وياه عشان الناس اللي هنا محتاجاني"، حاولت أن تعود لنوبتها مجددًا، ولم يهدأ بالها إلا ثاني يوم حين تحسن حال الطفل.

على مدار عملها في التمريض، كوّنت شيماء خبرة كبيرة في الجانب النفسي، فيما توّلت منصب رئيس التمرض في مستشفى الطب النفسي في المنيا، ساعدها ذلك على تجاوز مواقف عصبية داخل مستشفى العزل، منحها الصبر والقدرة على كسب وِد من حولها وثقتهم مهما بلغوا من عِناد. في إحدى المرات رفضت سيدة تبلغ من العمر 91 عامًا تناول الطعام، تستنكر غياب أولادها عن زيارتها "كانت مقتنعة إن ولادها رموها ومش عاوزين يقربوا لها".

بجسد هزيل تكوّمت السيدة على سريرها، تنأى بنفسها عن أي نقاش أو تناول طعام: "فضلت معاها وقت طويل عشان تتنازل عن الفكرة"، وبالفعل فّكت اعتزالها عن الأكل وبدأت شيماء في ممارسة هوايتها، لم تترك الغرفة إلا وقد ابتسمت التسعينية أخيرًا.

حوالي 60 شخصًا في فريق التمريض داخل "ملوي" للعزل كما تذكر شيماء، لكن ظلت صاحبة القامة الطويلة ذات طلة مختلفة، تعلّق بعض المرضى بوجودها وأصبح وجودها وهزارها معهم ضمن بروتوكولهم اليومي في العلاج، تتذكر إحداهن: "من كتر ما كنا بنقعد نتونس ونتكلم مع بعض، لما أنزل تتصل، وتقول إنها حاسة باختناق عشان أرجع لها الأوضة".

رغم الشِدّة؛ إلا أن شيماء لمست كل معاني المحبة في المستشفى، ما إن يتعافى مصاب يُفكر في رفيقه في الغرفة الذي لم يترك الفيروس جسده بعد: "الستات بتسيب جلاليب بتاعتها، واللي بيقدر يسيب فلوس؛ لأن في حالات بتدخل بتكون حالتها الاقتصادية صعبة"، رغم اللمحة البسيطة إلا أنها مسّت قلب الممرضة الشابة، فيما منحت المصابين معنى أبعد من الماديات: "إن في أمل يتعافوا ويخرجوا ويستخدموا الفلوس أو الهدوم دي".

شبكة من الانبساط كونتها شيماء مع فريق الممرضين، يعملون بدأب على الحالة النفسية للمصابين، قرابة 60 ممرضًا يجوبون الغرف يوميًا، ينفقون من مشاعرهم أكثر من جهدهم البدني، يتضامن الكل في تفاصيل صغيرة، أحد الأطباء: "بيسيب باقة النت بتاعته مفتوحة لأي حد عايز يستخدمها يكلم أهله"، فيما تبذل الممرضة الشابة أوقات راحتها؛ للبحث عن فكرة جديدة تمسح الحزن عن نفوس المصابين، وتمنحهم وِدًا ومحبة تُنسيهم المرض وسيرته.

فيديو قد يعجبك: