"نوادر الجدة فاطمة".. تونسي يلم شمل عائلته بجروب فيسبوك
كتبت- دعاء الفولي:
قبل عامين، تسمّر أنيس عرعود أمام البيت القديم في صفاقس التونسية، رأى نفسه صغيرا يلهو في ساحته رفقة أقربائه، يتحلقون حول الجدة فاطمة، تروي لهم قصصا، تضمّهم إليها فيتبدل صخب العالم لتهويدة ناعمة. كانت الجدة تحنو على الصغير والكبير، ما يتذكرها أنيس إلا ولسانها يلهج بالدعاء لهم. يفيق الشاب الثلاثيني ثانيةً؛ يدرك أن ملامح البيت لم تعد موجودة بعدما تُوفيت فاطمة وبيع المنزل لغرباء، يجرجر ذكرياته بعيدا عن المكان، ويقرر استعادة سيرتها ولم شمل الأحفاد بطريقة مختلفة.
في سبتمبر 2018، أنشأ أنيس جروب عبر موقع فيسبوك أسماه "امبراطورية أمي فاطمة"، لم يكتب الشاب التونسي في وصف المجموعة كثيرا، فقط "هذا الجروب لكل من له علاقة بفاطمة بن سالم.. أولادها وأحفادها".
كان للجدة فاطمة عشرة أبناء "7 بنات و3 أولاد" كما يقول أنيس، ما جعل شجرة أحفادها وأبنائها تضم 60 فردا، لا يعيش كثيرٌ منهم داخل تونس "فيه مننا بفرنسا وليبيا وكندا والسويد"، ومن بقوا داخل الوطن تفرقوا في محافظات عديدة، منهم أنيس شخصيا، إذ يقطن في محافظة المنستير التي تبعد عن صفاقس حوالي 160 كيلو مترا.
حين زار أنيس منزل جدته لم يتذكرها وحدها "شميت ريحة أمي أيضا الله يرحمها.. أحسست بالشوق للعائلة كلها"، ما إن أسس مهندس الإلكترونيات الجروب حتى لاقى استحسان أبناء خالته وأخواله "استرجعنا فيه ذكرياتنا الحلوة.. سواء بالصور القديمة ـو بالتعليقات"، وهو أيضا وسيلة هامة للمعرفة "حال وفاة أحد لا قدر الله أو مرض أحد أو حتى في الأفراح..".
يعرف أنيس أن الجروب لن يمنع عنه افتقاد الجدة ومنزلها، لكن ما إن يتحدث فيه مع أقربائه حتى يستعيد "أحلى الأوقات اللي قضيناها هناك"، يتذكر الشاب كل شيء؛ كان الاجتماع عند الجدة أسبوعيًا أمرًا مقدسًا، لم يُغن طِيب روحها عن شخصيتها القوية، لم تخرج من منزلها إلا قليلاً "في الصيف كانوا ييجوا أقاربنا وهي عندنا في المنستير للتمتع ببحرها الجميل"، قبل وفاتها عاش معظم أبنائها جوارها في صفاقس، عدا والدة أنيس التي تزوجت في المحافظة الساحلية، غير أنها لم تفوت لقاءات الأسرة أبدًا.
حوالي 100 شخص تضمهم مجموعة "إمبراطورية أمي فاطمة"، اثنان منهم أبناء الجدة الراحلة، فيما يتوزع الباقون بين الأحفاد وأزواجهم وأبنائهم، يُعدد أنيس أعمار الموجودين "أكبر حفيدة الآن في منتصف الستينيات فيما أصغرهم بأواخر العشرينات"، تُحلق الذكريات بين العائلة الكبيرة، بعض الأحفاد لم يكوّنوا حكايات كافية عن الجدة، لم يشبعوا من وجودها، إلا أن أنيس كان محظوظا "فاكر لها أشياء كثيرة بداية من المواقف المضحكة وحتى وفاتها".
كان منزل الجدة بسيطًا، اتخذت الأسرة فنائه الخارجي مستقرًا للتجمع، بداخله غرفة متسعة وأخرى ضيقة فقط "لكن قلب جدتي كان يسع الجميع"، مازال صوت السيدة فاطمة يرن في أذن أنيس، يستعيد طرائفها مع التلفاز الملوّن "لأنها لم تعايشه وهي صغيرة"، حين كان خاله يجلس بجانبها يدخن، يشاهدان سويا الأفلام القديمة "وفي مرة اشتغل فيلم لفريد شوقي كان يدخن أيضا فصاحت في وجهه: "أنت تدخن من هنا والرجل يدخن من هناك.. غفلقتوا البيت".
لم تكن أيام الجدة مُسالمة دائما؛ فقدت خلال حياتها ابنتها الكبرى وابنها الأصغر وأحد أحفادها، لكن قلبها كان فائضًا بالرضا، "كانت فقط كل ما تتذكرهم تدعو لهم بالرحمة دون جزع"، حفظت عهد الدعاء حتى على فراش الموت؛ يسترجع أنيس تلك اللحظة "كانت آخر مرة أراها فيها.. توفيت في 24 سبتمبر 2013".
رحلت فاطمة عن عُمر 96 عامًا، لكن روحها تُزين جنبات الجروب، لا يمر يوم إلا ويتقاسم الأحفاد نوادرها، تفصلهم مسافات بعيدة وتقرّبهم الجدة.
فيديو قد يعجبك: