"ضعف الوقت ومليارات مهدرة".. كيف تؤثر "الزحمة" على المصريين؟
كتب-محمد زكريا وإشراق أحمد
في طريقها بمنطقة المعادي، تتلفت فاطمة حسن جانبيها؛ صفوف سيارات متوقفة، الساعة الثانية والنصف ظهرًا، الطلاب يخرجون من المدارس. تنظر السيدة لعداد بنزين عربتها، تتفاجأ؛ المؤشر يقترب من النفاد رغم أنها رحلتها الثانية منذ الأمس بعدما تزودت بالوقود، تمتعض فاطمة لحال سيارتها ولانتظار هي على يقين أنه سيطول، لكنها لم تطل التفكير، فقد علمت السيدة الأربعينية الخسارة منذ امتلكت سيارة، واعتادت عليها مرات أخرى حينما عملت في مجال الشحن والتوصيل، خاصة أوقات الدراسة، إذ تقوم بإيصال الصغار إلى مدارسهم، ومع كل رحلة يكلف الزحام فاطمة إهدارا للوقت والمال.
ليست فاطمة وحدها من تتحمل تكاليف زحمة السير، التي تبلغ ذروتها في موسم الدراسة، بل ثمة خسائر متراكمة تتكبدها الدولة كل ساعة يتكدس فيها المرور في العاصمة.
في آخر دراسة حول زحمة السير في القاهرة، نشرها البنك الدولي في مايو 2014، يُهدر سنويًا نحو 47 مليار جنيهًا (8 مليار دولار) بسبب التكدس المروري، وهو ما يعادل 3.2% من الناتج المحلي السنوي.
ربع الساعة على أقصى تقدير هو الزمن المفترض أن تقطعه فاطمة بين شارع 9 في المعادي وأول منزل تتوقف عنده السيارة لوصول إحدى الطالبات بمنطقة زهراء المعادي، لكن ذلك لم يحدث "الطريق بياخد حوالي ساعة. نفق كارفور استحالة تمشي فيه وقت المدارس" تقول السيدة، بينما تذكر أن عودة الطلاب أمس، مع أول يوم دراسة تأخرت أكثر من المحسوب بعد الزحام، إذ وصل الصغار إلى منازلهم في الرابعة والنصف، أي بعد من موعد خروجهم بنحو ساعتين، فيما انهت إحدى المشرفات العاملات معها يومها في السابعة، لبلوغ منزلها في منطقة إمبابة.
في ترتيب مؤشر "tomtom" المتتبع لحركة المرور بـ406 مدينة في 57 دولة على مستوى العالم، تأتي العاصمة المصرية رقم 36 من حيث التكدس المروري.
ما بين 3 و7 آلاف مركبة تسير بالقاهرة في الساعة الواحدة حسب تقدير دراسة البنك الدولي لزحمة السير في مصر، فيما تتراوح سرعة الحركة على ممر مثل الطريق الدائري ما بين 20- 54 كم، مما يعني "أن الرحلات تستغرق ضعف الوقت" حسب الدراسة.
منذ قررت فاطمة فتح شركة للشحن والتوصيل عام 2015، وأضافت لخدماتها العام الماضي، نقل طلاب المدارس في منطقة المعادي –حيث تتواجد الشركة، وعلمت السيدة أن الزحام هو أكبر مشاكلها، تتذكر كم المكالمات اليومية التي تستقبلها من أولياء أمور ينهشهم القلق، حتى أنها تضطر إلى تصوير الطريق وإرسال الوضع إليهم كي لا يزيدوا الضغط النفسي عليها، فيما تعدد مرات إنهاء البعض تعاملهم مع شركاتها بعدما تسبب التكدس المروري في تأخير طلبهم.
قبل أشهر، أواخر فصل الصيف، وصل لشركة فاطمة طلب توصيل كميات من الطعام صحي لإحدى دور رعاية مسنين، في منطقة القاهرة الجديدة، خرج السائق بالطلبات من منطقة المعادي تمام الواحدة والنصف، ليصل إلى وجهته بعد الثالثة وبعض الأطعمة قد فسدت من طول الانتظار بالطريق وحرارة السيارة، ورُفض استقبالها، وتكرر الأمر منذ نحو شهر، لكن هذه المرة أثناء توصيل ورق لإحدى السفارات في منطة الهرم، فتسبب الزحام في تأخر الوصول نحو ساعة إلا الربع عن الموعد المحدد، فانهى العميل تعامله مع الشركة.
يفقد الفرد ما بين 13 و22 دقيقة في ساعة الذروة كل رحلة، و138 ساعة كل سنة أي ما يعادل 5 أيام و5 ساعات وفقُا لمؤشر "tomtom" لمتابعة حركة المرور في دول العالم، أما التكلفة المادية فنصيب الفرد منها سنويًا يبلغ 2400 جنيهًا حسب البنك الدولي.
وقد كان مصطفى محمود يتكبد من ساعة إلى ثلاث يومياً، قبل أن ينتقل بأسرته من مدينة العبور إلى حي المنيرة، بحثاً عن القرب من مقر عمله بحي المهندسين، والراحة من زحام شوارع القاهرة.
قرار الانتقال لمنزل آخر، لم يكن أولى محاولات محمود لتجنب طول المسافة، وتفادي الوقت المهدر، فقبل 6 أشهر من استئجاره شقته في المنيرة، اشترى محمود سيارة ملاكي، متمنياً أن تقلل ساعات التواجد بالطريق، لكنه واجه المشكلة ذاتها من زاوية أخرى "العربية في الزحمة متعبة.. أهو في الميكروباص ممكن تنام الساعتين بتوع الطريق، وممكن تنزل في الوقت اللي تحبه لو الدنيا وقفت، لكن وأنت جوة العربية قاعد صاحي ومركز، ولو دخلت في زحمة أنسى".
بحثت فاطمة هي الأخرى عن حلول لتجنب الزحام، فحددت مواعيد توصيل الطلبات –في فترة الدراسة- ما بين الحادية عشر والواحدة والنصف ظهرًا، أو بعد الرابعة عصرًا، أما لنقل الطلاب إلى المدارس فلجأت إلى تغيير الطريق "جربت نروح من ناحية المقطم مش الدائري مع أن المسافة أطول لكن عشان اتحاشى الزحمة اللي عند نزلة كارفور"، فيما تبكر من المواعيد فتذهب إلى المدرسة في الثانية ظهرًا قبل نصف ساعة من الخروج "عشان ماخدش وقت في تجميع الولاد" وكذلك عند الذهاب للحاق بموعد طابور الصباح.
ورغم التدابير التي تتخذها صاحبة شركة الشحن والتوصيل، لكن ذلك لم يمنع الخسائر، تذكر بالأمس لما بلغ الزحام ذروته، وكان بين الطلاب فتاة تسكن بمنطقة المقطم خلاف زملائها القاطنين بالمعادي، قررت فاطمة أن تصحب الصغيرة بسيارة أجرة إلى منزلها، إذ كانت السيدة بين خيارين إما الانتظار عالقين في زحمة السير وإهدار مزيد من الوقت أو تحمل دفع 120 جنيهًا تكلفة "التاكسي" ففضلت الأخير.
كذلك لم يفلح امتلاك محمود لسيارة خاصة، لم يعد يستقلها يوميًا في طريقه من المنيرة إلى مكان عمله، أصبح يفضل وسائل المواصلات في أحيان كثيرة، "عشان في الزحمة، بتواجهك مع العربية مشكلة أكبر، هي الركنة"، فيستقل "ميكروباص" من المهندسين إلى ميدان التحرير، ومنه يسير على الأقدام إلى منزله "منها رياضة ومنها ارتاح من الزحمة".
"أكثر من 50% من سكان القاهرة يستخدمون الميكروباصات (النقل شبه الرسمي) يوميًا" يقول محمد حجازي، شريك مؤسس لشركة مواصلة القاهرة، المتخصصة في الاستشارات عن حركة السير في شوارع العاصمة.
ورغم أن نسبة الزحام في القاهرة -40% عام 2019- انخفضت بنحو 4% عن العام السابق -44%- وفق مؤشر "tomtom" لحركة المرور في العالم، لكن زحمة السير تحول بين رغبة أحمد وحيد في المجيء إلى العاصمة وقت زيارته لمصر، فلم يعد يفعل إلا لرؤية أسرته في حي المطرية.
انتقل وحيد إلى العاصمة النمساوية، فيينا عام 2011 -حيث يعمل الآن في مجال السياحة- قبل أن يعود إلى مصر في زيارة بعد 3 سنوات، ليلتقي صاحب الـ35 عاما بوالديه وأخوته، ويعرضوا عليه وأسرته الصغيرة –زوجته وولديه- الذهاب في رحلة إلى الأهرامات، لكن زحاما لطالما عرفته شوارع القاهرة الكبرى، عكر بعضا من صفو نزهتم.
"مراتي وولادي فرهدوا في الزحمة والحر.. مش متعودين في النمسا على الزحام وإشارات المرور الكتير"، ورغم اعتياد وحيد على مثل تلك الأجواء وهو ابن الحي الشعبي، إلا أنه أحس صعوبة مع تكرار الأمر، وبخاصة أن الزحام لم يتوقف عند رحلة إلى الأهرامات، بل عايشه في أحياء مدينة نصر ومصر الجديدة.
عامان مرا على آخر زيارة لمصر، قبل أن تعود أسرة وحيد في العام 2016، إلى مدينة أخرى غير القاهرة، قضوا 6 أيام للتنزه في الغردقة، بعد أن زار الشاب أسرته ليوم واحد.
المدن العالمية تخسر أيضًا بسبب الزحام، فتهدر نيويوك وفقًا للبنك الدولي 10 مليار دولار سنويًا، لكن ذلك يعادل 07.0 % من ناتجها المحلي، فلا يمكن أن يختفي الزحام بين ليلة وضحاها، لكن ثمة حلول يمكن العمل على تنفيذها لتخفيف زحمة السير كما يقول، حجازي، ومنها تنظيم الطلب للنقل وذلك يعني "خلق دافع قوي لأصحاب السيارات الخاصة لتركها واستخدام وسائل نقل أخرى ودفع مستخدمي المواصلات العامة للاستمرار في استقلالها"، فضلا عن التشجيع الإيجابي على المشي وركوب الدراجات وليس اللجوء إليها فقط بسبب الزحام.
وينفي حجازي، فكرة أن زيارة عدد الحارات بالطرق وإقامة شورع جديدة المساهمة في الحل. "الشوارع بتجيب معاها زحمة" يصف حجازي، الباحث في حركة السير بالقاهرة، موضحًا إلى أن أقصى مدة يشعر معها الشخص بسيولة السير في الشارع الجديد تصل إلى 6 أشهر، بعدها يزيد إقبال أصحاب السيارات الخاصة على التوافد، فيعود الزحام.
ويشير حجازي إلى أن هناك خطوات نحو تخفيف الزحام في القاهرة، بداية من تحسين وسائل النقل، سواء افتتاح خطوط مترو جديدة، وحافلات النقل العام، وأخيرًا مناقشة البرلمان لقانون يتعلق بتنظيم ركن السيارات، معتبرًا ذلك من أقوى الوسائل للتأثير في سير الحركة بالشوارع.
فيديو قد يعجبك: