لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أيام في حضرة الموسيقى.. مصراوي يعايش تجربة جمعت عازفين من مصر وسويسرا

05:48 م الأحد 16 يونيو 2019

كتبت- رنا الجميعي:

تصوير- محمود بكار وأحمد طرانة:

لا يبدو الصوت واضحًا للقادم من بعيد، هناك في قرية تونس بالفيوم يحلّ الصمت كسلوك مُشترك، لكن من يُحاول الاقتراب سيجد نغمات تغوي الطبيعة الساكنة، اقترب أكثر، المسافة تتضاءل، والألحان السائرة في الهواء تُغازل الأذن، لا تكشف الموسيقى عن سرّها، إلا لمن يقترب، داخل إحدى الفيلات تتمازج آلات من الشرق والغرب، الطنبور والإيقاع والأكورديون والمزهر والمنجور والأرغول والتشيلو، تسري النغمات مُنسجمة مع صوت الطبيعة من حولها، العصافير والشجر، يخترقهم صوت "الريسة مديحة" وهي تغني "ولا تبالي ولا تبالي دا شاغلي بالي يا حبيبي ياورا بيه".

يقوم المركز المصري للفنون والثقافة "مكان" على مدار سنوات، بورش عمل بين عدد من فنانيه، وأجانب، قام المركز بالعديد من تلك التجارب، التي تكون نتيجتها حفل جديد يجمع بين الموسيقى المصرية والأجنبية، عايش مصراوي إحدى تلك التجارب المُدهشة، حيث ينتقل الموسيقيون إلى الفيوم، حيث فيلا خاصة بـ"مكان"، يعيشون فيها لأيام يختبرون ماذا يحدث إذا تقابلت موسيقاهم المختلفة؟

1

في حُجرة واسعة تدخلها أشعة الشمس، جلس فنانو فرقة "ناس مكان"؛ يُمسك عم رأفت فراج بآلة الطنبورة التي ترافقه منذ ثلاثين عام، وتتغنى الريسة مديحة مُتمايلة يمينًا ويسارًا، فيما تضرب صباح بيديها القوية على آلة المزهر، وينفخ أمين في آلة الأرغول، ويضرب وليد عبده على الإيقاع، في المُقابل يجلس هانس هاسلر، لازال يُحاول الإمساك بالنغمة على آلة الأكورديون، ترتبك يداه، لا يجد النغمة المضبوطة، يُحاول مُجددًا، وعلى آلة تُشبه القانون يقف إلياس منزي ممسكًا بالعصا ضاربًا الأوتار، بينما تجلس سارة كاسير مُثبتة آلة التشيلو على الأرض، تبدو كتلميذة في مدرسة، تُنصت جيدًا لصوت الموسيقى المصرية التي تداعب أذنيها لأول مرة، وتُسّجل بيديها ملحوظات على جهاز الآيباد، تمتزج النغمات الشرقية بالغربية كبروفة أولى بين ناس مكان وعازفين قادمين من سويسرا.

2

جاءت فكرة ورش العمل تلك عام 2007، بعد إنشاء المركز بخمس سنوات، "فكّرت نتوسع بعد القاهرة، أخدت حتة أرض هنا في الفيوم، وعملتها استراحة للموسيقيين"، يجلس دكتور أحمد المغربي، مؤسس مكان، خارج حجرة الضيافة التي يتدرب فيها الموسيقيين، يرتدي جلباب أبيض يليق بصفاء المكان، "الفكرة إننا نعمل ورش هنا بين المصريين والأجانب ويبقى نتاجها حفلة في القاهرة".

3

حرص المغربي على كل تفصيلة في "مكان الفيوم"، "أنا اللي عامل الرسم المعماري هنا"، مُشيرًا بيديه إلى تعاريج الورود البارزة في أبواب المطبخ والحجرات، تحتوي الفيلا 7 غرف للنوم، بالإضافة إلى حجرة الضيافة، تنقسم فيلا مكان إلى ثلاث أماكن منفصلة؛ حيث غرف النوم في مبنى مستقل عن حجرة الضيافة المتصلة بالمطبخ، بينما يُحيط المكان أشجار، لا وجود للمباني المرتفعة هنا، يُمكنك أن ترى السماء دون حواجز، بينما يخبط الهواء وجهك.

4

في الداخل تجلس سارة، بدأت تندمج مع الموسيقى، تلك هي المرة الأولى لها التي تزور فيها مصر، في ملامح سارة شيء يجعلك تحس بالحيوية والحماس، هي تجربتها الأولى أيضًا في ورشة عمل كتلك، تلعب سارة على آلة التشيلو منذ أن كان عمرها الخامسة، وجدث فيها أليفًا لا يمكن أن تفترق عنه، حين وصلت لسن السادسة عشر سافرت إلى بيرو دون صحبة التشيلو أو رفقة أسرتها، تقول "شعرت بالفقد"، لم تهدأ مشاعرها سوى حين وجدت آلة تشيلو بديلة "وقتها أحسست كأني في البيت وعرفت أنه طالما بقيت معي الآلة سأكون بخير"، منذ ذلك الوقت أدركت سارة خيارها في الحياة أنها ستكون عازفة تشيلو.

5

شاركت سارة في تلك التجربة عن طريق يوهانس روول، الذي هاتفها للانضمام لورشة العمل، يُدير عالم الأثنولوجيا -وهو علم الأعراق- مهرجان ألبينتون الموسيقي في سويسرا، وهو المُنظم لتلك التجربة كباحث من مؤسسة "نورينت" لأبحاث الموسيقى، بالتعاون أيضًا مع المؤسسة الثقافية السويسرية في مصر، حين علم روول عن ورشة العمل تلك احتار قليلًا في اختيار العازفين المُناسبين "كنت أرغب في اختيار موسيقى تنفتح على التجارب المختلفة"، حتى وقع اختياره على عازفين قادمين من خلفية الموسيقى الكلاسيكية، لكنهم منفتحين على الموسيقى المعاصرة.

6

لم يلتق سارة وهسلر ومنزي من قبل، كما أن معلوماتهم عن فناني مكان تكونت عبر روابط الإنترنت، لا يتحدث فناني سويسرا ومصر بلغة مُشتركة، فلا هؤلاء يتحدثون العربية، ولا هؤلاء يتكلمون الإنجليزية، تُوحدّهم الموسيقى، يضبطون النغمات مُحاولين التوفيق فيما بينهم، "ده بيتسمى ارتجال"، يقول المغربي، يؤمن صاحب مكان أن الارتجال لا يعني العشوائية "دول ناس دارسين ومذاكرين كويس، هما واقفين على أرض صلبة لكن بيحاولوا يضيفوا جديد في المزيكا".

7

لازالت البروفة مُستمرة، تسكت الست مديحة، يدخل عم رأفت فراج بآلة الطنبورة ذات الصوت الغليظ، يتغنى قائلًا "شلبي يا شلبي"، بعكس عازفين سويسرا الدارسين، فإن عم فراج لم يتعلم الموسيقى داخل مدرسة، كانت تجربته الحياتية هي الأساس الذي بنى عليه تاريخه مع آلة الطنبورة، غوى فراج تلك الآلة صغيرًا، لم يُفوّت لوالده مصطفى أية جلسة زار "كنت أروح من وراه، أكتب العنوان على كشكول وأروح بعد ما ينزل"، كالنداهة وجد فراج في الطنبورة ما لم يجده في كتب المدرسة "كنت أسجل أغاني الزار على شرايط وأحفظها، وفي مرة نزّلت الطنبورة بتاعة أبويا قعدت ألعب عليها"، ومنذ ذلك الوقت لازم فراج آلة الطنبورة.

8

في مكان الفيوم يقضي الفنانون حوالي أربع أيام، هي عمر ورشة العمل، لكل تجربة برنامج مُحدد يضعه المغربي، منذ تأسيس الفيلا في 2009؛ واستقبلت تجارب عديدة من دول الهند والمغرب وفرنسا وبلجيكا وغيرها، ومع كل ورشة عمل يضع المغربي في حسبانه العناية بكل تفصيلة "من أول مين هيستقبلهم في المطار لحد نوع الأكل اللي بيحبوه"، كذلك عدد المقطوعات التي سيُنتجها الموسيقيون لحفلة القاهرة. في الداخل كان العازفون مُستمرون في العزف بينما تغادر الريسة مديحة مكانها قائلة "أما أقوم أشوف الرز".

9

هنا الأجواء بطبيعتها، حيث تطبخ الريسة مديحة طعام الغذاء المكون من أرز وسمك مشوي، تفوح رائحته، يُنبّه الجميع أن موعد الأكل قد اقترب، يهتم المغربي بالأصالة وروح المكان، لا يريد استعارة الأجواء الغربية في اتاحة وجبات سريعة، "أنا عايز تبادل ثقافي بجد"، مُشيرًا إلى أن زوجة هاسلر التي رافقته ستعدّ أيضَا طعام سويسري.

10

داخل البروفة لازال هاسلر يُحاول ضبط نغمات الأكورديون مع النغمات الشرقية، يلعب العازف على الآلة منذ أن كان عمره الثامنة، يبدو عازف الأكورديون كحكيم بينهم بنظارته التي ترتخي أسفل عينيه، صوته الرخيم يدعو لتلك الحكمة، يرى هاسلر أن ورشة العمل تُشبه الطبخة، كل مكون فيها يضع طعمًا مُختلفًا "وأنا لازلت أبحث عن الطعم الخاص بي".

11

انتصف النهار، وجاء وقت الاستراحة، خرج الجميع من حُجرة الضيافة إلى الممر الواسع الواقع قرب المطبخ، جلسوا بصحبة الطعام، وحل السكون بينهم، بديلًا عن الموسيقى، بعد الأكل ينطلق العازفون نحو بحيرة قارون، وحين يحلّ الليل تدور دورة أخرى بالموسيقى حتى الصباح.

12

لم تكن الموسيقى هي الشئ الوحيد المُشترك بينهم، فالهموم متقاربة، نظرة العائلة والمُجتمع في مصر إلى امتهان الموسيقى كوظيفة هي نفسها التي قابلت كاسير وهاسلر ومينزي، صحيح أن تلك العقبة لم تُقابل مينزي، فوالداه مُحبان للموسيقى، وأحبّا العزف على آلتي الجيتار والفلوت "عامة في سويسرا المزيكا ليست هي الوظيفة المناسبة، لكنها طريقتي في الحياة".

13

في المقابل كان الخوف لدى أسرة وليد عبده، لاعب الإيقاع، اختلف الشاب عن والده الذي اشترك في فرقة شمس حسين، إحدى فرق النوبة الشهيرة، "لكن بعد فترة ركز في الشغل وحياته"، وبخلاف والده امتهن عبده الموسيقى، وبدأت محاولاته في الموسيقى منذ أن كان عمر السادسة عشر، في رأي الشاب الثلاثيني أن الموسيقى جزء أصيل في حياة الإنسان "كل بني آدم لازم يبقى عنده آلة، يا بيحبها، يا بيسمعها، يا بيلعبها".

14

كانت الموسيقى هي الكأس التي تدور بينهم، مرّة يُتقن أمين النفخ في الأرغول، وأخرى تتفوق عليه سارة على التشيلو، ويتبارى صوتا عم رأفت والست مديحة، امتدّت الورشة لأربعة أيام، لا وجود لصوت سوى الموسيقى، ودردشات العازفين، وترجمة روول والمغربي بينهم لنقل الكلام، لا يوجد تليفزيون يخترق بصوته المكان، لا يملّ عم رأفت من عدم وجوده "بالعكس دي بتبقى فرصة الواحد يركز في المزيكا بس، الواحد لما يشتغل مع أجانب بيبقى عنده توسع في تفكيره والآلة اللي معاه".

15

انتهت الورشة، وعاد الفنانون مجددًا إلى القاهرة، حينما بدأت الحفلة عزف السويسريون مقطوعتين بمفردهم، ثُم دخلت الريسة مديحة "أم سامح" بصوتها تغني بدلال "أسمر وحيلة بعيون كحيلة.. الشوق رماني ع الباشا ياورا بيه"، تلك الكلمات تحفظها مديحة منذ صغرها "الكلمات من يومها كدا، من جدود الجدود"، بالنسبة لمديحة فقد اشتركت في العديد من ورش العمل تلك مع مكان، قابلت جنسيات عديدة، وتقول عن التجربة "احنا دماغنا مش ورقة ولا قلم ولا نوتة، ربنا بيوفقنا بدماغنا".

بعكس الريسة مديحة فإن سارة تُحاول الاستمتاع بالتجربة لأقصى درجتها، أمام الجمهور تجلس محتضنة التشيلو، التي تنضمّ بعزفها عليه مع باقي الفريق، على وجهها يبدو سمت التركيز، فيما تُفكّر أنها تعيش الآن حُلم من أحلامها في الموسيقى.

تابع باقي موضوعات الملف:

مكان

"مكان".. مخزن "تراث" مصر المنسيّ (ملف خاص)

15 عام

15 عاما على إنشاء "مكان".. حلم "المغربي" في تسجيل التراث الغنائي المصري (حوار)

لأجل التراث

"لأجل التراث".. "فرح وبلالة" أصوات تُحافظ على أغاني الموال والنوبة في "مكان"

حكاية واحد من

حكاية واحد من دراويش "مكان": شبه بيت جدي

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان