لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"بهجة القلوب" تفتقد صاحبها.. ما مصير حديقة مصر الجديدة بعد النهري؟

05:12 م الإثنين 18 مارس 2019

جمال النهري صاحب حديقة بهجة القلوب

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-دعاء الفولي وإشراق أحمد:

حتى اللحظات الأخيرة لم يفارق محمود زهران صديقه. يستلقي جمال النهري متألمًا من مرض ألزمه المنزل لنحو 4 أشهر، غاب فيها عن "بهجة القلوب"، حديقته التي حولها من مقلب قمامة إلى بستان بهيج. جوار فراشه يجلس زهران مجتهدًا للتخفيف عنه بالحديث، فيخاطبه "يلا شد حيلك عايزين نزرع في الجنينة"، ينظر إليه النهري كأنما دب فيه النشاط، يضحك الرجل الثمانيني ويقول بصوت ودود "ياريت نقدر نعمل ده".

كان الصديقان تبادلا الحلم بأن يغرسا 500 فسيلة للورد البلدي من النوع "الجوري" ذي الرائحة الفواحة، لكن في السادس من مارس الجاري غادر النهري الدنيا، فيما استودع عمله في "بهجة القلوب" لدى زهران وجيران مصر الجديدة ممن أنسوا بالمرور فيها، وربطتهم به علاقة إنسانية تأبى النسيان وترك الحديقة بعدما تبدل حالها برحيله.

1

قبل سبع سنوات بدأ النهري بمفرده تطوير الحديقة العامة الواقعة بشارع عبد العزيز فهمي -على مقربة من الكلية الحربية بمصر الجديدة، وضع فيها اختمار محبته للزراعة والنباتات. 1500 مترًا من المكان كستها الألوان البهية، وغمرتها روائح عطرة لشجرة الليمون الحلو والياسمين والتمر حنة، وصارت قِبلة المتطوعين والجيران والعابرين، يلتمسون شيئًا من الجمال ثم يمضون في طريقهم.

داخل الحديقة شبه الخاوية، جَلست ماجدة رجب بجانب حفنة من زهور الريحان، يصيبها الحزن وهي التي اعتادت رؤية الراحل جمال النهري، فتُلقي عليه التحية، ويتحدثان في شئون الحياة.

تسكن ماجدة في شارع الحديقة منذ أكثر من ستين عاما، كان جمال وبستانه أحد معالمه "لما مات كأن الجنينة زعلت عليه"، تُشير السيدة للحشائش التي باتت أكثر بُهتانا، الأرض المُوشكة على الهلاك، والأشجار التي اقتلعها أحدهم من مكانها ليبيعها ويربح "شوفتهم بنفسي بيسرقوا من شتلات شجرة الليمون والموز".

"بهجة القلوب" فُسحة ماجدة الوحيدة "قريبة من البيت ومريحة"، مازالت تذكر سنوات ما قبل اهتمام النهري بالحديقة "كنا بنخاف نمشي فيها بس دلوقتي بقى فيه مقاعد وصفايح قمامة"، تحكي أن كل شبر تطور فيها يرجع فضله للعجوز الراحل "كنت أشوفه يشيل أكياس الزبالة على ويرميهم ويرجع ينضف.. كانت الناس ترمي وينضف بعدهم لحد ما بطلوا يرموا".

2

مُدة طويلة لم تر فيها السيدة صاحب الحديقة قبل وفاته "آخر مرة كان بيصور حلقة في التليفزيون.. ساعتها حسيته مبسوط وقلت هيرجع يشتغل في الحديقة تاني"، كان ذلك في ديسمبر 2018 لكن النهري لم يعد.

كانت سعادة النهري في رؤية زهرة جديدة أو ثمرة تتفتح، ولم ينس فضل نشأته الأولى، فزرع التمر حنة والبنفسج محبة لما تربى عليه من والدته وجدته في منزلهم بالعباسية الشرقية.

3

ظن الكثير أن النهري ثري، يشتري الكثير من الشتلات والفسائل، لكن ما صنعته يداه كان من زرع سبق له غرسه في حديقة منزله، أو تبرعات، حال قدوم البعض لزراعة نخلة صدقة جارية لموتاهم، والكثير منه فسيلة مأخوذة من النبات المزهر كما تقول ابنته الكبرى فجر.

حتى في منزله كان عشق الزراعة حاضرًا؛ جوار باقة ورد تقدمت صوره في مراحل مختلفة وُضعت أدواته من جاروف صغير وإبريق للري، فيما تحمل الشرفة ومدخل العقار قصاري من الزرع.

اعتادت الابنة الكبرى للنهري الذهاب للحديقة رفقته "كنت بعمل ده مرة في الأسبوع وبشتغل فيها تحت إشرافه". لم تكن الزراعة من اهتماماتها "بس شغف بابا بيها كان بيخليني أعرف عنها طول الوقت".

الحديقة كانت الابنة الخامسة للنهري، لذا كان ما يصيبها يُصيبه بالتبعية "فاكرة لما الحي جه مرة وبهدلوها مرضيناش نقوله وخفنا عليه لحد ما عرف واحدة واحدة". في الأيام الأخيرة وبينما يضغط عليه تعب الكبد، كان الغياب عن "بهجة القلوب" يُعييه أكثر، سؤاله عنها لم يتوقف، حتى أن الشباب الذين اعتادوا مساعدته، كانوا يلتقطون صورا لها ويرسلونها إلى فجر "كانوا بيحاولوا يبينوها جميلة قد ما يقدروا، وده اللي كان بيخفف عنه شوية".

4

كانت حديقة "بهجة القلوب" نافذة النهري على العالم، لطالما حكى لفجر عن أيامه فيها؛ كيف عرّفته على معظم أهالي المنطقة، أكسبته أصدقاءً جدد "من كل الاتجاهات والأعمار"، مازالت تذكر فجر صديق والدها الذي اعتاد زيارته أثناء المرض رفقة كلبه "كان بيقول لبابا الكلب مفتقدك وعايز يلعب معاك وبيقف عند مكانك في الجنينة".

الملل لم يكن من صفات النهري، قالت له ابنته مرارا "ريّح نفسك شوية أنت بتعمل حاجة صعبة"، فيما أتى رده قاطعاً "أنا عارف بعمل إيه.. ولو بعض الناس معندهاش ثقافة التنضيف فخلينا إحنا نعمل اللي علينا".

5

واجه النهري العديد من المشاكل الروتينية بنفس محارب "الحي كتير لما يزرع حاجة يقولوا له لأ دي متتزرعش هنا لأنها مش من تنسيق الحديقة"، في المقابل يبتسم قبل أن يصحبهم إلى بقية أجزاء الحديقة، ويطالبهم بالنظر إلى الأرض البور ثم يخبرهم بهدوء "وجايين تقولوا لي أني ببوظ التنسيق"، فيغادرونه.

الكثير من العابرين يمرون يوميًا على حديقة شارع عبد العزيز فهمي، لكن لم يكن مرور زهران عاديًا؛ قبل عامين كان يعبر صاحب الخامسة والأربعين ربيعًا الطريق. 30 ثانية من التأمل يستعيدها زهران "كنت دايما بسأل نفسي ليه الحدائق العامة عندنا قبيحة رغم أن في ناس شغالة فيها؟". لكن "بهجة القلوب" كانت مختلفة عما اعتادت عينيه رؤيته، وعرف السبب برؤية رجل مسن يرتدي قبعة، فيما يُمسك بخرطوم مياه يسقي الزرع الأخضر اليانع.

نحو خمس دقائق من الحديث دارت بين النهري وزهران، كان كفيل بأن يدفع الأخير ليصبح رفيقًا في العناية بالبستان. حتى نوفمبر الماضي ظل يمكث الرجل الثمانيني في الحديقة منذ الصباح الباكر حتى نحو الرابعة عصرًا، ويلحق به زهران بعد انتهاء العمل، وينضم له وقتًا أطول في عطلته يوم السبت، يتبادلان رغم فارق العمر بينهما العناية بما لا يقل عن 100 صنفًا زرعها الرجل الثمانيني.

كذلك تلاقى النهري وزهران على فلسفة المحبة "قلت في بالي الأرض بتدينا دايما خير ليه أنا ما أديش كمان الأرض"، فيما يحفظ للنهري كلماته عن الحديقة "الجنينة 3 م.. مدرسة للتعلم ومعبد للتأمل ومستشفى للعلاج".

6_1

يتذكر زهران صوت صاحب الرابعة والثمانين ربيعًا كلما استقبله "أهلا وسهلا يا أستاذ زهران" وقعها المميز ينزل على قلبه السرور. لم يعهده شاكياً حتى في أشد لحظات الألم، وهو ما أوجع زهران في أواخر أيام صديقه "لأني مكنتش عارف أعمل حاجة"، حاول رفيق "بهجة القلوب" أن يسير على الدرب، ظل طيلة شهور مرض النهري، يرسل إليه صور الحديقة، يزوره كل أسبوع يتبادلان الحديث الطيب عن كل شيء كعادتهما.

7

تغيرت علاقة زهران بالزرع منذ علم النهري "معلوماتي عن الزراعة كانت زي اليوغسلافي.. لكن أستاذ جمال خلى عندي إحساس عالي. بقيت أهادي أهلي ومعارفي بنبات أزرعه لهم". أصبح على يقين أن العلاقات الإنسانية مثل ما يُغرس في الأرض "لما العين تشوف حاجة حلوة على طول الجسم يتحرك والعين تبعت للقلب فينبسط".

عقب مرض النهري، بات وضع الحديقة سيئا، لم يعد يحمل ذات الأنس والجمال "بقت وكر لناس بيشربوا مخدرات، وناس تانية بيرموا فيها زبالة" تقول ماجدة، فيما تندلع غصة في قلب السيدة، وتحاول دفع الأذى قدر المستطاع؛ تخبر من يُلقون القمامة أن يحافظوا على نظافة المكان، أو تتناقش مع موظفي الحي "عشان يهتموا أكتر.. بقيت أتفق معاهم ممكن كل يوم منطقة صغيرة تتنضف من الجنينة لحد ما تبقى كويسة تاني".

تدهور وضع الحديقة، لكن أثر النهري باق؛ أخذ محمد عوض عهدا على نفسه ألا يتركها، فهو يسكن المكان منذ أكثر من عام ونصف بعدما فقد منزله، وبسببه تعرّف إلى جمال النهري وصارا صديقين.

8

رفقة النهري، تعلم عوض القليل عن الزراعة والري "جمال كان بيعامل النباتات بلطف.. كأنهم ولاده"، لذا حين أصاب التعب صاحب الحديقة "بقيت أخد بالي منها شوية بشوية"، لم يعرف كيفية التعامل مع الأدوات، لكنه تعلم طريقة الري للإبقاء على البنات حيًا.

"بقيت أكلم أي حد ممكن يساعد سواء في التنضيف أو الاعتناء، دي أمانة هو سايبها"، يُشير عوض بيديه للأرض "محتاجة الحشائش تتنضف عشان التربة تتنفس كويس"، يبحث عن الشباب ممن سبق لهم مساعدة النهري "بس لسه مش عارف أوصل لهم"، فيما يكتفي ساكن الحديقة بقراءة سورة الفاتحة بين حين وآخر للنهري، والتواجد في المكان قدر المستطاع "عشان اللي ييجي يسأل عنه وعن الجنينة يحس إنها لسه مماتتش رغم إنه هو مشي".

9

ما تركه النهري ضد النسيان، يمتن زهران لرفقة صاحب "بهجة القلوب" حتى الأربعة والعشرون ساعة الأخيرة في الرحلة، كما عرف منه ماهية الزرع، عايش للمرة الأولى رفقة أحد في نهاية رحلته، وهو ما هون عليه الأمر.

يدرك زهران يومًا تلو الآخر أن معرفته بالنهري حظًا طيبًا "الحياة فيها ضغوط كتير لكن فيها ناس زي أستاذ جمال بتبقى زي الرئة اللي تخلي الواحد يشم هوا نضيف"، لهذا يعمل مع متطوعين آخرين ممن عرفوا النهري أن يجتمعوا الخميس القادم لمناقشة مستقبل الحديقة، لا يخشى سوى ألا يتحلوا بروح المقاتل التي تميز بها النهري.

لم يتوقف النهري عن الحلم "كان بيخطط أنه يعمل معرض كبير يجمع الدول إيه اللي ممكن يتزرع عندنا من عندهم" تقول فجر إنه كتب ذلك على الورق منذ قرابة عامًا، ووضع الصيغة التي يمكن إرسالها للسفارات، وعمل على التعاون مع نادي الشمس لاستضافة حدث مثل هذا، تمنى النهري التعجيل بخطوات التحضير، فيما يسعى رفاقه اليوم إلى بحث آلية التنفيذ.

10

بعد وفاة النهري، تلقى أبناءه الكثير من الوافدين، البعض يعرض المساعدة للحفاظ على الحديقة، تقول فجر "إحنا هنعمل اللي في وسعنا عشان نهتم بيها وتفضل موجودة"، تذكر أصحاب مبادرات مثل شجرها، ممن امتن أفرادها لأبيها.

رحل النهري قبل أسبوعين، ولا يغادر زهران وجه صديقه، يتذكره لمرات عديدة في اليوم. وكلما فعل ناجى ربه "اللهم أقرءه مني السلام" فيستشعر أنه بلغه، فيما يجد العزاء في مصحف يحمل صدقة جارية على صاحب "بهجة القلوب"، يفتح صفحاته يوميًا، يقرأ ورده من صفحة معتاد عليها يوميًا، فيحدث نفسه أن "فيه حاجة واصلة بيني وبينه على طول".

فيما تلتمس ماجدة في أوقات "التمشية" أياماً عذبة مرت عليها بين مسك الليل، أشجار الفاكهة والنباتات العطرية "كنا نتقابل أنا وصحباتي ونتكلم ونتبسط.. يعدي أستاذ جمال نسلم عليه ونقعد معاه شوية"، لم يطلب الرجل يوماً مساعدة "كان المكان زي الجنة"، لذا وعقب وفاته تأمل السيدة أن يتم الاهتمام بالحديقة "لو عليا كنت اشتغلت بإيدي بس معنديش صحة".

أقرأ أيضا

بالصور: من مقلب قمامة لحديقة عطّرة.. شوف أزهار "جمال" واتعلم

فيديو قد يعجبك: