"متجول فوتوغرافي".. "ربيع" يحكي عن المدينة في "صورة"
كتبت-إشراق أحمد:
قبل ثمانية أعوام، لم يعد الشارع بالنسبة لمحمد ربيع طريق يسلكه موظف بنك للوصول والعودة إلى ومن مكان ما، بل أصبح وجهة في حد ذاته. لا تتوقف عيناه عن البحث فيه ولا يداه عن الضغط لالتقاط "تفصيلة" جديدة. يسجل لحظات تواجد فيها لكن ليس له من بطولتها سوى أنه مصورها، قرر أن يحكي عن الحياة في الطرقات عبر "كادر".
كان التصوير حلمًا مؤجلاً لربيع منذ عمر الحادية عشر، قبل أن يتوفى عنه أبيه، أحضر لهم كاميرا، وقت أن كانت الصورة لا تعرف سوى الأفلام والتحميض. انجذب الصغير لهذه الأداة الساحرة، بين أسرته ارتبط بها والتقطت يداه الكثير، لكن بعد رحيل والده بحث عنها طويلاً ولم يجدها، فتمنى من حينها أن يمتلك كاميرا جديدة، لكنه لم يفعل إلا مع بلوغه الرابعة والثلاثين عامًا، فلم يفلتها.
على مدار ثلاثة أعوام، ظل ربيع يصور "كنت أنزل كل جمعة وسبت وقت الإجازة من الشغل أمشي في الشوارع وأصور". لم يكن لدى صاحب الخامسة والأربعين عامًا هدفًا سوى أن يُشبع شغفه بهوايته ويتساءل "عاوز إيه من التصوير؟"، إلى أن وجد الإجابة.
"شريط سينما مبيخلصش. بشوفه زي صندوق ذكريات، حكايات حصلت وأشخاص فارقوا الدنيا أو بعدوا" كذلك أصبح يرى ربيع الشارع. كم من مكان يمر به ويتذكر ملامح أفراد، أو يطل موقف أمام عينيه، وربما استدعى "مزيكا" محببة، وطالما تواجد العابرون فالروايات لا تنتهي، يقول "الحكي جزء من آلية استمتاع الإنسان فما بال لو كانت الحكايات دي مرئية".
بدأ ربيع التصوير في محيط سكنه بمنطقة حلوان، "حالة التجول خلقت لي مساحة من الاكتشاف" كما يقول. "رتم" الحياة اليومية المعتادة من فتح المحال ومرور الأشخاص وحمل الحقائب أصبح مدهشًا له؛ لذا سخر هوايته المحببة عن شوارع المدينة، أي مدينة. بات يراها "مسرح كبير جواه المشهد والأماكن المرتبطة بأرواح سواء موجودة أو فارقتنا". قرر ربيع أن "يهون" على ما في حياة المدينة من قسوة وجفاء، ولو للحظات تتركها الصورة في نفس رائيها قبل أن يمضي عنها.
8 سنوات في شوارع القاهرة وغيرها من المحافظات، جعلت ربيع يصف نفسه بأنه "متجول فوتوغرافي"، لا يبرح فرصة إلا ويضغط "زناد" هاتفه "بصور اللي بحسه. اللي بشوفه بروحي قبل ما اللي بشوفه بعنيا". تتدرج موظف البنك إلى أن احترف التصوير، واتخذ لصوره سمتًا.
تخلى ربيع في صوره عن الألوان إلا قليلاً "بشوف أن الأبيض والأسود هو الروح الأصلية والألوان بتسرق المتلقي أكتر من أنها بتحطه في الحالة" يوضح المصور، فيما لا ينكر أهمية الألوان كجزء من الخريطة البصرية للشارع كما يقول.
كذلك أصبح ربيع يركز أن تشكل الصور قصص تحكي موقف أو حالة يعايشها رواد الشارع ربما يوميا. المسارات اليومية، عبور الطريق، التحية، الانتظار، ركوب المواصلات، كلها كانت مثار اهتمام ربيع، وضعها في صور متتابعة، هدفه في ذلك البحث عن "فلسفة الغموض الموجودة في الكادر اللي قدامي. أعطي مساحة للمتلقي عشان يتساءل".
مع الوقت أصبح لدى ربيع خريطة بشوارع القاهرة، يرسمها في ذهنه، ويعكسها في الصور من 3 أو 4 لقطات. "بقى عندي متلازمات شبه ثابتة" يقول المصور الشاب بينما يعددها من ظل ونور، أسطح عاكسة، متناقضات ما بين الحديث والقديم، الإطارات المحيطة بالمارة، وجد مثل تلك الأشياء رموز متكررة حتى أنه صار يشير إلى تأملها.
رغم شغف ربيع الشديد بالتصوير لكنه فضل أن يظل هاويًا، ولا يجعله مهنته الأساسية، ليس فقط لأنه يحب مهنته في البنك، بل لا يريد أن يضطر يومًا لتصوير شيئًا لأجل المال.
يؤمن ربيع أن ثمة لحظات لا تعود، لهذا يسجل ما استطاع، وأحيانًا لا يجد سببًا فيما التقطته يداه كما يقول، فقط يستجيب لفلسفة الشارع التي تقرها نفسه "بالنسبة لي هو مكان للحكي".
مستقلا المواصلات أو سائرا على القدم، تدور عينا ربيع عساه يجد مبتغاه من لحظات تعبر عن "الزمن، الحب، الكره، الحنين" وغيرها من مفاهيم معنوية يمكنه تحويلها إلى بصرية.
لم يكن طريق التصوير يسيرًا. تجارب كثيرة خاضها ربيع ليجيد التعامل بالكاميرا في الشارع، بداية من أول شخص رفض التقاط صورة له وهو في بداية رحلته مع الكاميرا ثم اقنعه. "الناس بتحب تتصور بس عايزة تعرف ليه بتصور فلو قلت لهم هيقبلوا والموضوع يبقى بسيط"، يقول المصور، مدير نادي القاهرة للكاميرا منذ عام 2007.
مواقف عدة يواجهها أثناء تجواله داخل القاهرة وخارجها، بعدما بات يسافر المحافظات باحثًا عن لقطة، يقابلها بابتسامة وسرعة بديهة اكتسبها مع الوقت، يذكر ما حدث قبل خمسة أعوام حين كان يصور إحدى العمائر في شارع طلعت حرب، فإذا بأمين شرطة يوقفه، ليرد عليه ربيع "استنى مكانك كده" ويلتقط له صورة، يغضب الشرطي لكن ما إن رأى الصورة وعرف ما يفعله المصور الشاب، ابتسم وطالبه بأن يرسل اللقطة له.
بين وجوه كثيرة، لا ينسى المصور الهاوي ذلك الرجل في فندق "ريش الجديد" بالإسكندرية. ما إن دخل ربيع شعر بالسفر لزمن آخر؛ المكان قديم حتى أن ثمة محول تليفون وإضاءة خافتة، ووسط هذا مسن أخبره بينما يضغط على زر الكاميرا "خلي بالك أنت بتصور حكايات ناس كتير"، علقت كلمات العجوز بعقل ربيع منذ عام 2013.
مشاريع تصوير عدة نفذها المصور الهاوي، بينها لقطات خارج مصر، التقطها حينما جاءته فرصة السفر أول مرة لتدريب في مدينة لشبونة الإسبانية. أسبوع أمضاه كان عليه أن يقدم في نهايته قصة مصورة، مكث ربيع ثلاثة أيام يتجول فقط في الشوارع حتى يجد معنى يترجمه لصورة، وفي اليوم الأخير قبل ختام الدورة التدريبة نفذ الفكرة "لشبونة الساحرة".
صور عبر هاتفه المحمول تتجلى فيها المباني. توصل ربيع إلى أن روح تلك المدينة "أحجارها أقوى من أشخاصها"، وكسب الرهان بين زملائه بأن ينتتج شيئًا مختلفًا بوسيلة في يد الجميع.
لشبونة ليست الوحيدة التي زارتها كاميرا ربيع، على مدار شهر كامل جاب العاصمة التركية إسطنبول في أكتوبر 2017، سكن في منزل بحي شعبي، تعايش بين الناس كأنه منهم، وعاد بنحو 30 "جيجا بايت" من الصور، لم يكن يعرف بعد أي خط قصصي سيسلكه، لكنه احتفظ برؤيته عن المدينة "البطل كان التنوع وتعدد الثقافات.. دي كانت روح إسطنبول"، فكان مشروعه "أرواح المدينة" الذي عبر عنه بـ15 صورة، استخلصها بعد سنة وشهرين من العمل.
لا يعتبر ربيع المدة التي قضاها متتبعًا خطى مدينة إسطنبول فترة طويلة، يذكر أن ثمة مصورين عالميين مثل البرازيلي سيباستياو سالجادو، الذي اشتهر بالعمل على مشاريعه المصورة لسنوات من أجل توثيق حياة بعض الفئات حال العاملين والمهاجرين.
يحلم ربيع أن يتبع خطى من يعتبرهم "ملهمين"، يواصل التجول في الشوارع لا تفارقه مفكرة صغيرة، يُدون فيها خواطره عن معان لم تسجلها كاميرته بعد، وأفكار لمشاريع تصوير قصيرة وطويلة الأجل، يأمل أن يعمل على تنفيذها يوما ما.
فيديو قد يعجبك: