رحل "شعث" وبقى حلمه مستمرًا.. 15 عامًا على تجربة "معسكرات الكمبيوتر"
كتبت-رنا الجميعي:
يُمكن لتجربة واحدة لدى المرء أن تُغير فكره، تجعله يرى العالم بشكل مُختلف، يحمل ذكراها، ويرغب في مشاركتها مع البشر؛ لأن من يذوق طعم التجربة الحلوة بمفرده لن يستطيع مهما قال التأكيد على ذلك المعنى، بل عليه ضمان أن يتذوقها الآخرين أيضًا.
هكذا كان علي شعث، الذي لم ينْس تجربة معسكرات الكمبيوتر العربية، التي أقيمت في الفترة من 1984 إلى 1994، وأحبّ التكنولوجيا التي جعلته يتمكن من التعبير عن نفسه جيدًا، فأراد برفقة زوجته، رنوة يحيى، وشركاء آخرين المزج بين التكنولوجيا والفن الذي يهواه، فكانت مؤسسة التعبير الرقمي العربي "أضف".
كانت مهمة معسكرات الكمبيوتر هي تدريب الفتيان والفتيات العرب من سن 8 إلى 18 عامًا على برمجة الحواسيب، وأقيمت في الفترة من 1984 إلى 1994، وكان هدفها هو نشر ثقافة تقنية المعلوماتية
في الرابع من ديسمبر 2013 فارق علي شعث الحياة، عن عمر يناهز الـ 46، لكن ذكراه ظلّت باقية داخل مؤسسة أضف، كل عام تُحيا ذكراه، محاولين تذكر المبادئ التي أرساها علي داخل المؤسسة، وما أنجزته أضف خلال عام كامل، كل ذلك خلال تجمع لأصدقاء علي، والمشاركين من الفتيان والفتيات بـ"أضف".
في سبتمبر 2011 كانت المرة الأولى التي يقابل فيها عمرو جاد، مسئول المساحة المجتمعية في أضف، علي شعث، وقتها كانت مقابلة عمل لمعرفة ما إذا كان عمرو مناسب للوظيفة أم لا، ولاحظ الشاب أن علي لهو شخص هادئ يُنصت جيدًا "وبيسأل أسئلة دقيقة"، مُبديًا ملاحظاته حول تغيير مسار عمرو بعدما كان يدرس الصحافة.
حينما استقر عمرو في وظيفته الجديدة كانت المؤسسة مستمرة منذ ستة أعوام، والحُلم الذي داعب خيال علي كثيرًا أصبح واقعًا، فلم ينْس تجربته صغيرًا حين شارك في العديد من معسكرات الكمبيوتر، بداية من المعسكر الذي ذهب إليه في أمريكا بالثمانينيات "وقتها بابا لما سمع عن المعسكرات دي بعت علي لأمريكا"، تقول شقيقته المصورة الفوتوغرافية راندا، كانت أسرة علي من أوائل من دخل إليهم الكمبيوتر "كان عندنا كومبيوتر من سنة 85".
ولم تنتهْ التجربة عند ذلك؛ أعجب والد علي بفكرة المعسكر، وقرر تحقيقها داخل الوطن العربي، من خلال مؤسسة "تيم"، التي شغل نبيل شعث منصب رئيس مجلس الإدارة فيها "وعلى مدار سنين كانت المؤسسة بتعمل المعكسرات دي وعلي كان بيحضرها"، وكانت من أكبر ميزاتها التعرف على فتيان وفتيان من مختلف الدول العربية.
ورغم توقف المشروع بعد ذلك في عام 1994، كوْن الكمبيوتر قد بدأ في الانتشار ذلك الوقت داخل الوطن العربي، لكنّ التجربة لم تُغادر علي "مفيش حد في المعسكرات دي مش شايل ذكراها في قلبه"، ومع حلول عام 2005 بدأ علي يُفكّر في عودة المعسكرات ثانية، لكنّ السؤال الذي شغل مهندس البرمجيات كان عن كيفية تحقيقها في الألفية الثالثة، التي أصبح الكومبيوتر فيها شيئًا لم يعد مُستحدثًا.
شارك في حلم علي زوجته رنوى، ورفقاء آخرين من تقنيين ومهتمين بالفنون، وأخذت الفكرة تتبلور "طول الوقت كان مهتم بالفن والإدارة والتكنولوجيا"، يقول عمرو، ومن هنا قام علي بدمج الفن والتكنولوجيا معًا، وبزغت الفكرة في ذهنه والرفاق "التعبير الرقمي"، وظهرت "أضف" لإتاحة الفرصة لأولاد الوطن العربي بالتعبير عن أنفسهم من خلال التكنولوجيا الرقمية.
كان علي مؤمنًا بأن إتاحة الأدوات التقنية ستجعل الفتية قادرين على التعبير عن رأيهم، حيث أقامت "أضف" ورش عديدة منها الحوسبة والتعبير البصري والفيديو والهندسة الصوتية، والتي كانت أنشطة نادرة فيما قبل 2011، ففي رأي عمرو أن اهتمام الأهل في ذلك الوقت كان مُنصبًا على الدراسة التقليدية خلال المدرسة فقط، لكن "أضف" كانت مُختلفة عن ذلك.
بالفعل تحقق حُلم علي، ومنذ 2005 وإلى الآن شارك العديد من الفتية والفتيات، كذلك الشباب، من بين المُشاركين في معسكرات "أضف" الصيفية كانت دينا صبري، التي خاضت تجربة السفر وحدها لمدة أسبوعين لأول مرة بفضل "أضف" في سن الثالثة عشر، وفي 2009 جاءتها الفرصة على طبق من ذهب.
كانت دينا متطوعة في جمعية "سلامة موسى" في المنيا، وحين طلبت أضف توفير خمسة أفراد من متطوعي الجمعية للاشتراك في المعسكر الصيفي، كانت دينا من بينهم "لما شفت فيديو بيشرح فكرة المعسكر وشفت شغل ناس قبلنا بتشتغل على مشاريع في المزيكا والأفلام حبيت أكون منهم"، خاصة مع حُب دينا للموسيقى.
كان ذلك جزء من أحلام علي، هو تشجيع النشء على استكشاف أنفسهم، والتواصل مع الثقافات المختلفة، فقد ضمّ المعسكر أطفال من مختلف الدول العربية؛ تتذكر دينا أنها أخذت تُرحب بالقادمين من الدول العربية، تقول ضاحكة "رغم إني مشتركة زيهم ومش عايشة في القاهرة كمان"، لكنها كانت مُقبلة كثيرًا على التجربة الجديدة " كنت حابة فرصة إني اعبر عن رأيي بحرية وبدون ضغط".
ليلة وصول دينا إلى المعسكر رأت علي للمرة الأولى، وقتها كان حماس الشابة بدأ في الخفوت، وحلّ مكانه إحساس بالإدراك والقلق من حجم التجربة الكبيرة "وقتها علي وقف ببساطة وسط الدايرة يعرفنا على بعض ويكلمنا بطريقة نسيتني القلق اللي جوايا".
نفس الانطباع الذي أخذت دينا تكوّنه عن علي، عرفه عمرو على مدار سنتين عمل فيها رفقته "هو متفهم ومرن جدًا، كمان بيحب يشجع الناس تستكشف نفسها"، يتذّكر مسئول المساحة المجتمعية ذات مرة حين قام فيها علي بتشجيع أحد الفتيان بالعمل على برنامج تحرير الموسيقى "قاله اشتغل وورينا هتعمل ايه"، وكانت النتيجة هو مقطع موسيقي قام به الفتى لأول مرة، ونشره مؤسس "أضف" كموسيقى تصويرية للفيديو الترويجي الخاص بالورشة التي اشترك فيها الصبي "انبسط بيه جدًا وكتب اسمه في تتر الفيديو".
كذلك شعرت دينا خلال المعسكر الصيفي، حيث صارت أكثر قدرة على التعبير عن نفسها من خلال الموسيقى "وبقيت اجتماعية أكتر وبقدر أتعرف على الناس بسهولة".
لم يكن شغل علي الشاغل هو تدريب النشء لمدة قصيرة فحسب، بل كان يسأل نفسه طيلة الوقت "ازاي يقدروا يستمروا بعد كدا"، وهو ما قاله في "تدكس" القاهرة 2012، لذا لم ينصب اهتمام "أضف" على الصغار فقط، بل أيضًا تدريب الشباب مهارات مُختلفة أكثر عُمقًا، كما أن المشتركين في المعسكرات لديهم الفرصة للعمل بعد ذلك ضمن فريق المؤسسة، وهو ما حدث مع دينا.
لم تنقطع صلة الشابة بـ “أضف"؛ فقد أصبحت مسئول إداري بعد ذلك، ما جعلها أكثر قُربًا لعلي، ووقع أثره، تتذكر كلماته التي يُرشدهم بها ضمن مسئولي فريقه "كان بيقولنا إننا لازم نقدر نعبر عن نفسنا ونبقى براحتنا وده كمان هيشجع المشتركين إنهم يبقوا براحتهم"، كان علي يضع نصب عينيه صنع مساحة من الألفة والحميمية والحرية للأفراد، كما أنه لم يقلل أبدًا من شأن أحد "كان بيشجع المشتركين على إنهم يقولوا اللي بيفكروا فيه، علي كان أول واحد يطلع يقول أي كلام عشان بس يسهل الطريق على الناس ومحدش يتكسف".
لمُدة عامين رأت دينا عن قرب مؤسس أضف؛ حماسه ونشاطه، تقديره للآخرين أيضًا، حينما تعود لآخر مرة تحدثت فيه مع علي قبل رحيله، تمتلئ بمشاعر الامتنان لتلك اللحظة الجميلة "كنا في نهاية معسكر صيفي وسلم عليا جامد وقالي شكرًا"، تلك الكلمة البسيطة أنارت قلب دينا "حسسني بتقدير فرق معايا وإنه واخد باله من التعب اللي تعبته في الشغل".
من الحرية والحق كفكرة إلى الحرية والحق كممارسة علي شعث
كانت هوية علي كمنهدس برمجيات هي التي يرى من خلالها العالم، يذكر عمرو مقولته الشهيرة التي تُلخّص أفكار علي "من الحرية والحق كفكرة إلى الحرية والحق كممارسة"، لذا كان من بين آمال علي التقنية هو استخدام البرمجيات الحرة مفتوحة المصدر، حتّى أنه شارك في الوقفة الاحتجاجية أمام مقر مجلس الوزراء في ديسمبر 2012، للدعوة لذلك، واعتراض قرار الحكومة على هدر 40 مليون دولار في صفقة تراخيص ميكروسوفت "وقتها قابلهم وزير الاتصالات بنفسه".
وبالفعل حققت الوقفة نجاحًا، ليس مباشرًا، بل بعدها بسنوات؛ حين ضمّت وزارة التربية والتعليم في منهج الحاسب الآلي للصف الأول الإعدادي، عام 2016، موضوعات متعلقة بالبرمجيات الحرة، وكان ذلك على خلفية تعاون مشترك بين وزارة الاتصالات ووزارة التعليم في 2013، في المشروع القومي لتطوير التعليم باستخدام تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.
البرمجيات الحرة مفتوحة المصدر:
هي برمجيات حاسوبية يُمكن لأي شخص استخدامها والتعديل عليها ونسخها وتوزيعها أيضًا.
لم يكن رحيل علي مُتوقعًا، ليلة وفاته كانت واحدة من الليالي الناجحة في "أضف"، "كنا بنعرض فيلم فرش وغطا اللي كان عامل ضجة وقتها، وقتها عملنا أربع عروض للفيلم بسبب ضغط الناس، وحضر 500 شخص"، صباح الرابع من ديسمبر تلقى عمرو الخبر، للحظة توقفت الحياة عنده، لم يستوعب الشاب ما حدث، كذلك كان الخبر صادمًا لدينا.
حينها أقيمت ليلة لتأبين علي في مقر أضف، كان الجميع صامتون، لازالت عقولهم تتحسس وقع الصدمة، بحسب ما تتذكره دينا عن تلك الأيام، لكن فريق "أضف" كان حريصًا على تجديد ذكراه كل عام "بتبقى فرصة نقوله فيها انت وحشتنا"، تقول الشابة، وتصير الذكرى مناسبة يجتمع فيها محبين أضف "حتى الولاد اللي بيشاركوا بييجوا مع أهاليهم"، يُضيف عمرو.
لازال عمرو يتذكر كلمة قالها المحلل السياسي ورفيق علي، هاني شكر الله، "كان بيقوله شكرًا إنك خليت الناس تكمل من بعدك"، هكذا يرى عمرو فضل مهندس الإلكترونيات على مؤسسته "إن احنا لسه مكملين لحد دلوقت، وبنفتكر مع بعض كل سنة ايه الإنجازات اللي عملتها أضف".
حتى أن شقيقته راندا حريصة على حضور التجمع السنوي، حيث يتناقل الجميع فيما بينهم كود سري بأن لا مكان للحزن، بل فُرصة لسريان حالة من الدفء والبهجة والموسيقى التي يُحبّها علي.
فيديو قد يعجبك: