"حلوى" و"محبة".. كيف أصبح عيسى قسيسية "بابا نويل" القدس؟
كتبت-دعاء الفولي:
كان عيسى قسيسية طفلا طموحا. لا تُغطي هدايا عيد الميلاد المجيد تطلعاته، بات يتمنى لو أعطاها له "بابا نويل" بنفسه، أراد مقابلته في القدس حيث يعيش. كَبُر عيسى ليدرك أن أمنيته لن تتحقق، لكنه صار "بابا نويل" الذي ينتظره أطفال القدس كل عام ليمدهم بالشيكولاتة والألعاب والأمل.
يتذكر عيسى كيف كان والده يُسعد أطفال العائلة "أبوي كان عنده بدلة سانتا كلوز.. في كل كريسماس يلبسها ويضله يضحك معانا ويجيب حاجات حلوة"، قبل حوالي 15 عاما ارتدى عيسى زيّ والده "ونزلت على البلدة القديمة قلت شوف كيف يستقبلوني الناس"، وزّع أشياء بسيطة على الأطفال ونسي الأمر، وفي العام التالي "كذا حدا اتصل عليا وقاللي ليش ما بتنزل هالعام تبسط الناس شوي؟".
يعمل صاحب الـ45 عاما مُدربا لكرة السلة، كان لاعبا محترفا في المنتخب الفلسطيني، دائما ما أحب التعامل مع الأطفال، لم يفقد صبره تجاههم، لذلك عندما توقف عن اللعب أصبح مُدربا في إحدى المدارس بالقدس، وبالتوازي تفرّغ لدور "بابا نويل".
بين شوارع البلدة القديمة ظل عيسى يتجول على قدميه في ذلك الوقت من كل عام، وقبل عشر سنوات "فكرت إنه إنزل على جمل وألف بيه"، لم يفعل هذا من فراغ "الأطفال ضلوا يسألوني فين الغزال تبعك؟ وفين العربة بتاعة بابا نويل؟"، حين امتطى عيسى الجمل لأول مرة مرتديا الزيّ، قال له طفل باستنكار "بس بابا نويل ما بيركب جمل"، ليرد "لأنه هون ما عنّا بالقدس تلج وبالتالي ما عنّا غزلان بس عنّا جِمال كتير حلوة".
قصة "بابا نويل" لها أصول حقيقية، ترجع للقديس نيقولا في مناطق الإمبراطورية الرومانية والذي وزّع الهدايا على الفقراء، فيما يعرفها أطفال العالم "سانتا" كعجوز مرح، يعيش في القطب الشمالي مع زوجته، ويصنع له الأقزام المسحورون الهدايا.
منتصف عام 2016، تلقى عيسى اتصالا من ولاية كلورادو الأمريكية، يدعوه للذهاب لمدرسة هُناك، تُعلم فنون التعامل مع الأطفال وكيف يُصبح الشخص "بابا نويل" جيد، لم يتخيل عيسى أن الأمر له جذور تعليمية، ذهب ليستكشف المكان وأصابه الانبهار "قابلت أكثر من 300 شخص من دول مختلفة كلهم سانتا كلوز في بلدانهم"، شعر بالفخر حين أدرك أنه العربي الوحيد، استقبله الموجودون بالترحاب لأنه قادم من الأراضي المقدسة التي شهدت مهد المسيح عليه السلام.
في المدرسة ظل عيسى لثمانية أيام، تعلم الكثير "كيف نحكي.. كيف نلبس.. كيف نسوي ألعاب من الخشب والقماش ومن أي أشياء بسيطة.. ونسوي كمان البسكوت بتاع العيد.. وكيف نُرسل خطابات للأطفال"، تكررت الزيارات فيما بعد لولايتي ميتشيجان وتينيسي، ولم تكن للتعلم فقط، بل للاجتماع بمن مثله وتبادل الخبرات.
"بابا نويل" ليس رجلا يرتدي زيا جميلا فقط "هو فكرة التسامح والمحبة اللي بدنا نعلمها للأطفال"، رغم حصوله على هدايا وهو طفل "بس ما كان عنّا أجواء سعيدة للميلاد بالقدس.. ما فيه شجرة.. كل شخص يحتفل داخل بيته إن فعل"، كانت القدس هادئة بشكل مُقيت في الأعياد، وهي التي تضم أهم المعالم الدينية المسيحية في العالم، تغير ذلك قليلا في السنوات الأخيرة "صار عنّا شجرة كبيرة"، إلا أنه يشعر بأسى تجاه بعض أطفال الوطن العربي "ما عندهم فرصة يعيشوا حياتهم بسبب سوء الأوضاع.. لهيك كان لازم يكون فيه سانتا بالقدس".
لعيسى قاعدتان لا يتخلى عنهما أبدا، الأولى هي محاولته الحفاظ على هدوءه بسبب وجود مواطنين من دولة الاحتلال داخل القدس "إذا بمشي في الشارع وحدا ضايقني ببعد عنه.. ما بدي رُد الإساءة بإساءة ولا كون مثل سيء للصغار"، أما الثانية فكونه يعامل الأطفال من القلب، يستمع لهم بكل ما أوتي "إذا ما سويته هيك ما بيظبط مع الأطفال لأنهم أذكياء وإحساسهم دايما صحيح".
حكايات أطفال القدس مع "بابا نويل" كثيرة "بييجوا يحكولي أسرارهم ياللي ما بيقولوها لأهلهم"، يستقبل المدرب الأربعيني المئات في موسم العيد داخل منزله، لم يعد يعتمد على جولات الجمل فقط، حيث خصص جزءً من بيته ليشبه منزل "سانتا كلوز"، بناه بيديه من الخشب وزيّنه ووضع فيه عربة شبيهة بالموجودة في القصة.
في العام الماضي فقط، استقبل منزل عيسى حوالي 12 ألف عائلة، من المقدسيين والسائحين الأجانب، بات مكانه المفضل ليس للأطفال فقط "الأهالي صاروا يقولولي إنت وفرت علينا الخروج من فلسطين"، في منزله يجلس عيسى عشر ساعات يوميا مرتديا الزي، منتظرا هدايا الأهل ليعطيها لأبنائهم، يمتليء منزله بالحلوى والشيكولاتة، يقول ضاحكا "لما الناس تسألني إيش المساعدة اللي بدك ياها.. بقولهم هاتولي شيكولاتة للأطفال.. هايدا العام فقط وزعت 95 كيلو".
لا يُحب كل الأطفال "بابا نويل"، هُنا تكمن قوة عيسى "بيخافوا من اللبس والدقن"، يُقربهم إليه بهدوء، يُعطي الحلوى لأبائهم ويتحدث معهم "لحتى هما ييجوا لحالهم"، يسعد عندما تنقلب حالتهم من الخوف إلى التعلق به "وما بيكونوا عايزين يروحوا مع أبوهم"، يوقن أن لكل طفل مدخل "فيه صغار ما بتجيب معهم الحلوى"، يستخدم حينها التراب السحري "هو بودرة بتلمع.. بحطه على إيديهم وكتير بينبسطوا فيه خاصة البنات".
عندما تأتيه الفرصة يذهب عيسى للمستشفيات لزيارة المرضى "مش بس أطفال.. كمان كبار السن كتير بيفرحوا بالهدايا"، فيما لا ي للأطفال عن العيد "بكون عارف من الأم إنه هاي الولد بيمص إصبعه وهو نايم"، يُخبر عيسى الطفل أنه يراقبه أحيانا وهو نائم ويتمنى لو توقف عن تلك العادة "بنبسط كتير لما الأم تتصل فيا تقولي إنه الابن بطّلها".
في أواخر كل عام، يُمسي جدول عيسى مُزدحما "بصحى بدري نضّف بيت سانتا وأعبّي الحلوى وألبس البدلة"، يشتري زيّا جديدا كل عام "لأنه لازم كون شكلي حلو ونضيف.. لازم الولاد يشوفوني بأبهى صورة"، يستعد عيسى ليوم الخامس والعشرين من ديسمبر جيدا، إذ يذهب برفقة بطريرك القدس إلى شارع النجمة بمدينة بيت لحم ومنه إلى كنيسة القيامة "هايدا المكان سارت فيه السيدة مريم حاملة المسيح"، يُقابل آلاف الكبار والصغار، يتحرك بالجمل أحيانا، بسيارة أو على قدميه، تُرهقه تفاصيل اليوم "بس بشوف ابتسامة الصغار وبسمع صوت ضحكهم كل إشي بيصير أحسن".
يود عيسى لو طاف البلدان العربية، أن يُعطي هدايا لكل الصغار، بالأخص هؤلاء الذين يحملون أسرارا حزينة ويخبرونه إياها "بلاقي حدا بيقولي بدي أبوي يطلع من السجن.. بدي إمي تصير طيبة وما تمرض"، ينعقد لسانه أمام أمنياتهم "بقولهم إن كل شيء حلو ممكن يحصل بالعيد.. بحاول أخد منهم اليأس وأعطيهم أمل".
فيديو قد يعجبك: