"مرسال" تتقفى أثر "عنايات الزيات".. لماذا سقطت الكاتبة من ذاكرة الأدب المصري؟
كتبت-هبة خميس:
رحلة طويلة قامت بها الكاتبة والشاعرة المصرية، "إيمان مرسال"، للبحث عن السيرة الذاتية لعنايات الزيات، بدأتها مرسال وهي شابة في مطلع التسعينات؛ تسير مغتربة في شوارع القاهرة لتجد عند إحدى باعة الكتب القديمة الرواية الوحيدة لعنايات بعنوان "الحب و الصمت"، والتي يعود تاريخ صدورها لأكثر من ربع قرن.
و بعد أكثر من عشرين عامًا، وبعد صدور العديد من الكتب والترجمات لمرسال، وقد صارت أستاذ للأدب العربي في كندا، لكن هاجس عنايات سيظل مُطلًا في حياتها، حتى تقرر بدء تلك الرحلة لتقتفي أثر الراحلة، تُشبه رحلة مرسال في البحث عن أثر عنايات بالتحقيق الاستقصائي، حيث حاولت سد فراغات كثيرة، حتى يتسنّ لها كتابة السيرة الذاتية للكاتبة ذات الرواية الوحيدة، تُحاول من خلاله الإجابة عن السؤال الذي أرّقها "لماذا سقطت عنايات من ذاكرة الكتابة الأدبية في مصر؟".
يبدأ الكتاب، الصادر حديثًا عن دار الكتب خان، بحكاية بولا -المعروفة بإسم "نادية لطفي"- عن مشهد انتحار عنايات الذي يبدو صادمًا، ومليئ بالإصرار؛ إذ أن عنايات ابتلعت علبة كاملة من المنوم لتنام نومة أبدية قبل أن تكمل عامها الخامس و العشرون، وتسرد بولا في السطور الأولى من الكتاب "رأيتها ممدة في سريرها جميلة، كأنها في نوم هانيء و اللحاف مفرود فوقها بإتقان".
بدأت رحلة مرسال حينما قرأت نعي صغير في الجريدة لإحياء الذكرى السنوية لعنايات من قِبل أسرتها، فتُقرر حينها الكتابة عنها، ومن ثم بدأت الرحلة من المقابر للبحث عن قبرها، و الذي لم تستطع إيجاده في البداية.
أثناء بحثها كانت تعود مرسال دائمًا لرواية "الحب و الصمت " لتقرأها مرات عديدة، كي تستشف من بين السطور أزمات عنايات مع الإكتئاب و الاغتراب، فتقول مرسال داخل دفات الكتاب "إنها رواية عن الموت، ليس موت الأخ هشام ولا الحبيب، بل الموت اليومي الذي تحاربه نجلاء بطلتها في داخلها، كم تضجرها الحياة، كل حدث يومي يتحول إلى رتابة وملل بما فيه الخروج للعمل ضد رغبة أسرتها الغنية، حتى الحب و الحرية يجعلانها لا تعرف ماذا تصنع بنفسها".
قدمت مرسال إلى القاهرة من كندا لمقابلة نادية لطفي صديقة الراحلة، لكن موت فاتن حمامة أجّل تلك المقابلة فتُحبط ثانية، فعلى مدى سنوات سافرت الكاتبة مرات عديدة لتقتفي أثر الراحلة، لكنها تراوغها المرة تلو الأخرى، حتى أنها فوجئت بضياع أرشيفها الكامل.
و بطريقة أشبه بتجميع خيوط عديدة تمشي مرسال لتجيب عن سؤالها، فتلتقي بـ"عظيمة الزيات" الأخت الصغرى لعنايات وتجتمع بنادية لطفي أكثر من مرة، والتي كانت أقرب لعنايات من أي شخص، ثم تراسل إحدى صديقات عنايات في المعهد الألماني لتعرف منها ترددها على مستشفى "بهمن" لتلقي العلاج؛ فعنايات عاشت حياة قصيرة تحارب الاكتئاب منذ صغرها للدرجة التي تسببت في تأخيرها الدراسي لعام في المدرسة الألمانية التي التقت فيها بنادية لطفي.
و في شبابها تزوجت زيجة تعيسة انتهت بطلاقها، ومعها طفل بعد الكثير من الخلافات والقضايا، ثم عادت ثانية لبيت أبيها في الدقي في شقة أعلاه لتعيش حياة هادئة، كدّرها محاولات طليقها لبث الكره في قلب طفلها، بعد عملها في وظيفة بالمعهد الألماني لترجمة وثائق عالم يدعى "كايمر" الذي انجذبت لقصته، وتقرر بعدما انتهت من "الحب و الصمت" البدء في كتابة رواية عن حياته.
تضمنت رحلات مرسال مصلحة المساحة بالدقي لتعرف أسماء الشوارع القديمة، وأرشيف الجرائد القومية والمعهد الألماني، ومستشفى بهمن للطب النفسي، التي تلقت منها عنايات علاجها ضد الاكتئاب و الحبوب المنومة التي ابتلعتها لتودع العالم بطريقتها.
حرصت مرسال على رد الاعتبار للزيات سواء عن طريق البحث عن أرشيفها و مواقف كُتّاب مثل؛ أنيس منصور ومصطفى بمحمود وكشفها لمتاجرتهم بقضيتها وتغيير نهاية روايتها الوحيدة، وعن طريق طلب ضمها لشجرة عائلة رشيد باعتبارها إحدى أقربائه أيضًا.
كل ما جمعته مرسال لم يُرضِها لأن الأرشيف الأصلي للكاتبة انتقل من بيت والدها لبيت أختها، وجرى تنقيحه ليتحول إلى بضع أوراق ورسائل وصور موجودة في صندوق في بيت نادية لم تفتحه مرسال، أما باقي الحكايات فرتّقتها عن طريق أقدم ساكنات الشارع الذي عاشت فيه عنايات، وهي مدام النحاس التي تُعدّ آخر من رأت عنايات على قيد الحياة قبل انتحارها بعد أن قصّت شعرها.
تختم مرسال كتابها بفصل كامل عن الكاتبات اللائي قمن بجز شعورهن في لحظات اليأس، و تُنهي مرسال رحلتها بالمقابر بعد أن دمر شاهد قبر عنايات الرخامي، وتتساءل "هل يجب أن تكون واقعة هدم المقبرة نهاية رحلتي مع عنايات؟".
بعد تلك الرحلة الطويلة تصل مرسال للإجابة على سؤالها؛ فاستبعاد عنايات جاء بسبب أنها لم تكن مشغولة بقضايا كبرى أو موضوعات اجتماعية، كما كان المزاج العام يسعى وقتئذ، كان همها اﻷول هو أن تحكي بعض من حكايتها الشخصية وهمومها وقلقها من العالم واغترابها عنه.
فيديو قد يعجبك: