العرائس تكسب الحرب.. كيف عادت الحياة لآخر فنان خيال ظل في سوريا؟ (حوار)
حوار- رنا الجميعي ودعاء الفولي:
سنوات طويلة كان يعيش فيها شادي الحلاق على الخيال فقط، غواه فن خيال الظل، فأصبح الـ"مخايل" الوحيد في سوريا، لم تمنحه تلك المهنة ما يوازي قيمته "هو فن ما بيطعم خبزة"، غير أن إعلان اليونسكو الأخير جاء ليُعطيه الأمل في إحياء خيال الظل بسوريا "يمكن هلأ بعد 25 سنة بدأت تشرق الشمس إلّي رح تضوي على هاد الفن".
في مطلع ديسمبر أعلنت اليونسكو، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، إدراج هذا الفن القصصي القديم ضمن قائمة التراث العالمي، والذي يحتاج جهود استثنائية من أجل إنقاذه من الاندثار.
هذا الإعلان جاء ليُنعش الحلاق، يقول في حواره مع مصراوي إن هذا كان بمثابة حُلم بالنسبة له "إنه يعترفوا بخيال الظل باسم شادي رشيد الحلاق"، يُعتبر الفنان آخر من يعمل بذلك المجال بسوريا، ويُوضح بعض ملابسات إعلان اليونسكو بقوله "ستتعاون الأمانة السورية للتنمية مع اليونسكو لتأمين مطالب إحياء هذا الفن"، لكن حتى الآن لم يتم مناقشة كيفية سير العمل.
خيال الظل هو أحد فنون الترفيه الشعبية، ويعتمد على الحكايات التي ترسمها ظلال الدُمى، التي يتم تحريكها بعصا وراء ستار من القماش الأبيض، مسلطا عليها الضوء.
في ليالي سوريا السعيدة، في أوائل التسعينيات، كان الحلاق يدور برفقة والده رشيد بين مقاهي دمشق، يرى أبيه الحكواتي يغزل قصصًا أمام مرتادي المقهى، فيُغلّفهم ستار من الدهشة بدلًا من الصمت، كانت تلك الأجواء ساحرة بالنسبة للحلاق، أشبه بليالي ألف ليلة وليلة، لكنّه أحبّ أن يشب عن طوق أبيه.
يتذكر الحلاق حكايات والده عن مهنة "الحكواتي"، قال له إنه لم يكن هناك مقهي في سوريا يخلو من "حكواتي" حتى عام 1970، وقد أحيا والده ذلك الإرث بعدها بنحو عشرين عاما، فكان يقرأ لمرتادي المقهى حكايات كتبها بخط يده.
مثل والده تعلّم الحلاق مهنة "الحكواتي"، غير أنه أحبّ أن يخلع عباءة أبيه "وقتها أنا ما كنت أعرف خيال الظل ولا شفته، لكن حب المغامرة دفعني لاكتشافه"، حينها بدأ الحلاق بقراءة القصص والكتب المعنية بذلك الفن "من بين الكتب ورد معي كتب تحكي عن صناعة الجلد وتحضير الألوان النباتية لخيال الظل"، استرعى نظر الحلاق خيال الظلّ كثيرًا، فسأل والده وجمّع المعلومات الخاصة بالأداء والمهارات المطلوبة التي مكّنته من أداء أول عرض عام 1993.
مثلما أحيى رشيد مهنة الحكي في التسعينات، فعل الابن ذلك مع خيال الظل، ظهر العرض الأول للحلاق مُتمثلًا في شخصيات من التراث تُسمى "كركوز وعواظ"، داخل العرض عادت الشخصيتان من سباتهما واكتشفا التغيير "مثل أهل الكهف"، هكذا يقول الحلاق للعالم بإن خيال الظل يُحيى مُجددًا على يديه. أحدث العرض صدى حتى كُتب عنه مقالًا بعنوان "كركوز يبعث من جديد".
لم يكن والد الحلاق راضيًا بما يفعله، يعلم الأب تمامًا أن تلك الفنون لا تُغني من جوع، غير أن الحلاق أصرّ على أداءه "أنا حكواتي ومخايل والاتنين بيجيبوا المتعة والفرح والتقدير"، يُكمل الفنان السوري "لكن ما بيجيبوا المردود المادي اللي بيقدر يعيش"، تعلّم الحلاق حتى المرحلة الإعدادية، بعدها ترك الدراسة وبدأ العمل الحر، كان والده يعمل كتاجر بسوق العصرونية بدمشق "كنت أشتغل عنده وأشتري بعض البضائع وأبيعها لحسابي"، بين هذا وذاك عاد الحلاق للدراسة الحرة بعد إتقان مسرح خيال الظل "درست تصوير تليفزيوني ومونتاج وإخراج وإدارة أعمال وصناعة أفلام وثائقية".
بكل الحُب يقوم الحلاق بخيال الظل، يُلمّ جيدًا بتاريخ ذلك الفن، يعلم متى وفد إلى سوريا، وكيف تم تداول قصصه إلى الآن، ولماذا اندثر في السبعينيات أيضًا، يقول إن المهنة انحصرت في عائلات تتوارثها، وازدهر ذلك الفن في زمن الحكم العثماني، وكانت قصصه بها مزاج صوفي، حتى بدأ عهد جديد مع احتلال الفرنسيين لسوريا "كان عهد انحطاط فيها تناول القصص البذيئة، وهذا ما أدى إلى انحساره بين بعض العائلات، التي رفض أبناؤها تداول المهنة".
منذ أول عروضه كان الحلاق يُقدّم أعمال توعية وتثقيفية "يداخلها معلومات ومزاح"، يحرص فيها أن تلامس الحياة اليومية للناس، في ذلك كان الحلاق يُحاول أن ينجح فيما فشلت فيه محاولات قديمة "حاول أبو خليل القباني إنهاض هذا الفن من البيئة الشعبية، لكنه واجه أرباب الشعائر الدينية، وحُرق مسرحه مرتين"، على حد قوله.
مرّ الحلاق بأعوام سيئة، لم يختلف الحال بينها، فنه لم يتم الاعتراف به سواء من قِبل جهات حكومية أو غيرها، رغم مُحاولاته المضنية للتواصل "دائمًا كان فيه محاولات وسعي، كلهم كانوا يوعدوا ويطنشوا"، من أحلك الأوقات التي مرّت بالحلاق كانت خسارته لـ1600 دُمية، لا يعلم الحلاق تحديدًا ظروف دمارهم "انسرقت أو أحرقت أو تهربت، ما عندي معلومة"، ففي يوليو 2011 اضطر الحلاق للخروج من سوريا بسبب الصراع المستمر فيها، نحو لبنان، وخلّف عرائسه التي من صنع يديه ورائه "كان عندي ورشة بالبيت في ريف دمشق".
لم يترك الحلاق شيئًا في مجال خيال الظل، إلا وتعلّمه، من بين ذلك صنعت يداه العرائس، بدأ تجاربه بعام 1990، تكررت محاولاته حتى أتقنها بعد ذلك بثلاث سنوات، كانت الخامات المُستعملة من جلود الأبقار والألوان من النباتات المجففة بطريقة معينة، حين خرج "المخايل" من سوريا أخذ معه "كركوز وعواظ" فقط، لكنه تمكّن في لبنان من صنع أربع دمى آخري أسماها "فهمان وطرمان وأم شكردم والجندي".
استمرّ الحلاق طيلة تلك الأعوام في إيمانه بفن خيال الظل "كان تحدي مع والدي إنو راح أخلي هاد الفن يبصر النور ويجيب مصاري"، مُتذكرًا والده الذي بوفاته مضت مهنة "الحكواتي" دون أثر، والآن بعد إعلان اليونسكو يبدو أن سعي الحلاق له معنى، وأن ذلك الفن سيزدهر مرة أخرى، وسيكون الفضل الأكبر له في ذلك "أتمنى أن يعود خيال الظل يعلم يثقف وينوّر، يضحّك ويبكّي، يقوم بدور المصلح والمسلي".
فيديو قد يعجبك: