عام على مذبحة الروضة.. جامع الجثث يروي حكاية دفتر "الشهداء"
كتب-أحمد الليثي ودعاء الفولي:
مطلع نوفمبر الماضي رُزق محمد سلمان بمولوده الأول. طار قلبه فرحا، لكن السعادة انقلبت حزنا حين تُوفي ابنه قبل أن يبلغ 30 يوما. بقلب راضي ذهب الشاب ليواري فلذة كبده الثرى في مدينة بئر العبد بشمال سيناء حيث يعيش، كان ذلك صبيحة الجمعة الموافق أربعة وعشرين نوفمبر 2017، حينها قطع أحدهم المشهد المهيب بخبر عن حادث في قرية الروضة، ليجد سلمان نفسه داخل المستشفى، يساعد في إحصاء الجثث والمصابين، متناسيا مصيبته الصُغرى.
شهدت قرية الروضة التابعة لمركز بئر العبد بشمال سيناء، حادثا إرهابيا يعد الأول من نوعه، بعدما اعتدى نحو 30 إرهابيا على المصلين أثناء أدائهم صلاة الجمعة نوفمبر المنصرم، ما أسفر عن استشهاد 311 شهيدًا، بينهم 27 طفلا، فضلا عن عدد من كبار السن والمسنين، تجاوز عددهم الستين، و112 مصابا –بعضهم بجروح خطيرة، تم علاجهم في مستشفيات مختلفة.
عامٌ مر ولا ينسى سلمان الوقت الذي قضاه في مستشفى بئر العبد المركزي، ما جعله يبذل محاولات مستميتة إلى الآن لمساعدة أهل الضحايا، وضعته الظروف في اختبار عصيب "مكنتش عارف إني هكتب بإيدي أسامي الشهداء وأسجلها".
عندما وصل سلمان مستشفى بئر العبد "مكنش عندي خلفية عن عدد المصابين"، ظنّ أنهم بضعة أشخاص، لكن قابل صديقه أمام الباب "كان عمال يعيط ويخبط دماغه في الحيطة وبيقولي الناس ماتت"، وفيما لم يستوعب سلمان المشهد، توافدت الجثث "كانوا كتير لدرجة إن الناس بتجيبهم على عربيات نص نقل وملاكي".
كان الشاب السيناوي معروفا في المستشفى بحكم اندماجه في أكثر من عمل خيري، لذا أمسك ورقة وقلم وبدأ يدوّن أسماء الضحايا وألقابهم "كنت بلف على المصابين أطمن عليهم وبعدين أخد الاسم ولو تليفونه معاه أتصل بحد من أهل بيته أعرفه إنه عايش وكويس"، أما المتوفي فيبحث عن أقرب الموجودين له سائلا إياه عن اسمه.
عقب صلاة الجمعة وحتى العاشرة والنصف مساءً، كان محمد يُحصي الجثث والمصابين "بقى على آخر اليوم معايا كشف في كل اللي موجودين في بير العبد بأسمائهم الكاملة". حرص على توثيق كل شيء، وأدرك أنه نجح حينما طلب منه موظف الإحصاء التابع لوزارة الصحة نسخة من الكشف "نقلت الأسماء من ورقة الكراسة الصغيرة وكتبناها بشكل منظم وأديت نسخة تانية لقوات الشرطة وقيادات الجيش وواحدة لمدير المستشفى".
في البداية كان سلمان يوثق لتسهيل تواصل الأهل مع ذويهم "بس بعد كدة قلنا طب ما نستغل القايمة دي ونعمل حاجة للناس". اتفق مع صديقين له في قرية الروضة "فرزوا القايمة دي عشان يشوفوا الأسر الأكثر احتياجا"، أما سلمان، ففعل نفس الأمر مع قائمة أخرى شملت 30 ضحية من بئر العبد، يعرف ظروفهم المادية جيدا.
في الحادث، لم يسجل سلمان عدد الموتى والمصابين فقط؛ حفظت ذاكرته تفاصيل مُرعبة عن الناجين وأسر الضحايا.
بات الأمر أشبه بعبء يحمله الشاب السيناوي فوق ظهره "شفنا أهوال".. فما بين أشخاص رآهم قبل الرمق الأخير، يتذكر حكاية أم جاءت تسأل عن ابنها.
"الولد دة كنت متمم على جثمانه بنفسي.. اسمه محمد حمد واسمه مميز جدا"، في المستشفى سألت والدته عن اسمه "قولتلها البقاء لله".. فجأة خلعت السيدة حجابها، لطمت وجهها، وظلت تصرخ "واحد من اللي واقفين أخدها بالحضن وقالها ابنك مامتش يا أمي"، انزعج سلمان مما فعله الرجل "قولتله ممكن يجيلها صدمة وتموت.. بس هو نهرني وقاللي انا هقولها بس مش دلوقتي".
فاجعة الروضة لم تتمثل في رحيل الضحايا بشكل مأساوي وحسب، بل ظهرت مشكلة متمثلة في عدم وجود أوراق ثبوتية لبعض أهالي الراحلين "كان في ستات كتير معندهاش شهادة ميلاد أصلا".
لكن خلال العام الماضي تم حل الأزمة؛ إذ تبرع عدد من الجمعيات الخيرية ورجال الأعمال لإعمار القرية، وكذا أشرفت بعض مؤسسات الدولة وعلى رأسها وزارة التضامن الاجتماعي في صرف التعويضات ومعاشات أسر الشهداء.
وبينما يؤدي عدد من الشخصيات العامة، صلاة الجمعة، غدا بقرية الروضة، سيتم تسليم 135 منزلا لأهالي القرية، إذ كانت وزارة الأوقاف قد تعهدت ببناء 270 منزلا بقرية الروضة بتكلفة مليون و300 ألف جنيه يتم تنفيذها بالتعاون مع وزارة الإسكان.
كان سلمان لا يكتب شيئا إلا مع مشاهدة الجثة أو المصاب رؤيا العين "المشاهد بتعدي قدامي كأنها فيلم"، انقلب دوره يومها من شخص يطمئن الأهالي إلى "حانوتي بيبلغهم إن حد من عندهم مات". مرارا جاءته سيدات تسألن عن ذويهن، اختبر الشاب كل المشاعر المتناقضة، بين الحزن، الشجاعة، الخوف وحتى الفرح الطفيف "لما كنت ببلغ مصاب إن أبوه عايش أو أشوف راحة على وش واحدة اتطمنت على جوزها".
في الليل، وحين انفض موكب الدم، ذهب سلمان ليدفن الجثث، ثم عاد لمنزله أخيرا "كانت الناس مستنياني في البيت عشان يعزّوني في ابني"، كان قلب الشاب قد نال نصيبه من الانفطار "بقيت حزين بس بقول الحمد لله.. أومال الناس اللي ربت عيل لحد ما بقى عنده عشرين سنة واتقتل هتعمل ايه؟"، كان مظهره يتحدث عنه؛ ملابسه ملطخة بالدماء ووجهه كأنما ابتلعه الشيب، غير أنه "لا راد لقضاء الله" كما اعتاد أن يردد.
كانت المواقف التي يشعر الشاب أمامها بالعجز كثيرة؛ تارّة يُربّت على كتف المكلومين، أخرى يصمت، أو يمشي مُبتعدا بدلا من الانهيار "فاكر جثة واحد اسمه إبراهيم مكنش حد عارفها من الموجودين"، شكّ سلمان أنه من الوجه البحري، في نفس الوقت كان يكتب على صفحته عبر موقع فيسبوك أسماء بعض المصابين ليتعرف عليهم الأهل، لكن الشبكات صارت فجأة أسوأ "فضلت مش عارف أدخل على الإنترنت لحد عشرة بليل".
بعد عودته للمنزل وجد مئات الرسائل يسأله أصحابها عن ذويهم "منهم صاحبي من دمياط، قاللي فيه عندك حد وصفه كذا واسمه كذا"، فورا تذكر جثة الرجل الغريب "كانت مميزة لأن صاحبها طويل وعريض"، سأل سلمان صديقه عن أوصاف الشخص "قاللي نفس الحاجات بالظبط.. قولتله دة موجود ومتوفي"، بوغت سلمان حينما قال له "دة يبقى عمي.. البقاء لله".
هزّت الأحداث كيان ابن بئر العبد؛ بل كل من حضر المذبحة؛ بعضهم كاد أن يُصاب بلوثة "زي واحد صاحبنا اسمه كرم". كان كرم داخل أحد مراحيض الجامع حين وقعت المذبحة "هو مكنش فاهم في ايه.. افتكره زلزال وفضل جوة الحمام نص ساعة"، حين انتهى الأمر، خرج كرم راكضا بعيدا عن أرض الروضة "فضل يجري تقريبا نص ساعة ومبصش وراه حتى"، لم تكن شبكات المحمول تعمل في الروضة، لذا ما أن وصل الشاب إلى منطقة "التلول" اتصل بأحد أقاربه "قاله روح الروضة فيه حاجة بتحصل هناك"، وخلال ساعات عاد كرم إلى المسجد ليعاين ما جرى.
"الراجل فضل كام يوم ماشي بيتلفت حوالين نفسه ومش مركز"، لم يفقد كرم أمانه فقط "عربيته اللي شغال عليها اتحرقت وكان تمنها 240 ألف جنيه وكان لسة بيسدد أقساطها".
لم يمر العام على محمد مرور الكرام، كل حين يتذكر ولده الذي راح، وذلك اليوم الذي عاشه وسط مئات الضحايا، أولئك الذين حملتهم يديه، صوته المتهدج وهو ينادي على ابن مكلوم، النسوة اللائي يصرخن، وعداد الموت الذي كر من الرفاق والأحبة. عقب الحادث اكتشف سلمان أن اثنين من أعز أصدقائه قُتلا غدرا على يد الإرهابيين داخل خيمة اتخذوها كمخبأ بعيدا عن المسجد "كنا مع بعض في رحلة للأقصر من كام سنة.. بس آخر مرة شفتهم كانت صورة نعيهم على فيسبوك بعد المذبحة بيومين".
فيديو قد يعجبك: