اليمام نشر الحرائق.. أهالي الراشدة يروون تفاصيل 16 ساعة من الرعب
كتب - نانيس البيلي ومحمد بدر الدين:
تصوير ـ محمود أبو ديبة:
فيديو - نسيم عبد الفتاح:
كانت مشاهد الحمام اليمام المحترق، فوق أشجار النخيل المشتعلة بقرية الراشدة بالوادي الجديد، هي الأكثر رعبا في نفس "مصطفى أحمد". هلع ابن القرية العشريني من السرعة الهائلة التي يمتد معها الحريق "شوفنا النار بتتحرك بالـ10 متر مرة واحدة"، باغتت الطير المستقر أعلى النخلة "اليمامة بتلاقي النار تولع فتطير، بمجرد ما تحط في النار تاني بتولع على طول" يقولها بصوت يغلبه البكاء.
في نفس الوقت، كانت أصوات الشيوخ تصدح بالدعاء في ميكروفون المآذن بمساجد القرية، يتضرعون لفك الكرب وصرف البلاء "اللهم ارفع المقت والغضب عنا يارب، يا لطيف الطف بنا".
قبل ساعة من آذان المغرب، كانت أخبار الحريق الذي اندلع في منطقة عيون المياه "الشيشلانة، الرحمة، النبق" بدأت تصل أصداؤه إلى قرية الراشدة التي تبعد عنها قرابة 4 كيلو متر، وقتها كان "مصطفى" يستعد للذهاب للمسجد، لم يقلق الشاب العشريني كثيراً، فتلك هي المرة الرابعة التي تشب ألسنة النيران في أشجار النخيل خلال عام واحد "فكرنا الموضوع بسيط وهيخلص كالمعتاد".
لكن بمجرد الانتهاء من الصلاة، كانت ألسنة اللهب وصلت إلى مساحات هائلة من النخيل، تنتقل في لمح البصر بين الزراعات، تقترب من المنازل "النار بقت محاوطانا داير ما يدور".
دوت أصوات الاستغاثات في ميكروفونات المساجد والإذاعة المحلية للقرية، الجميع يجري بجنون في كل الاتجاهات، يحاولون بكل الوسائل إطفاء النيران "اللي خد جردل مياه، رمل، واللي ماسك طرف جريدة نخلة"، بينما عجزوا عن مواجهة الحريق "بقوا يسيبوا بيوتهم ويهربوا"، يروي "ياسين عمران" أحد أبناء القرية".
بعدها حضرت سيارات الإطفاء، كان الليل قد حل، أحضر الشباب والرجال كشافات الإضاءة للإنارة لأفراد الحماية المدنية "وبقينا نساعدهم ونفرد معهم خراطيم المياه"، فيما حالت المسافات الضيقة بين النخيل دون دخول سيارات الإطفاء. وبدأت عربات اللودر توسع طريقًا لها وسط الزراعات "عشان تعرف تدخل قلعت نخيل".
وساعدت شدة الرياح في انتشار الحريق إلى مسافات، بدأت كتل النيران الأشبه بالجمرات تصل إلى داخل القرية، من بينها الحمام المحترق "الفحمة بقت تمشي بالنص كيلو جوه البلد" يقول "أيمن" أحد الأهالي، بعدها تستقر أعلى أسطح البيوت المبنية من الخوص وجريد النخل، اعتلى الأهالي منازلهم، بدأوا يتعاملون معها "نعبي مياه من الخزان ونلحقها قبل ما تولع".
"حزام عازل" بين النخيل والمنازل، بدأت الأجهزة التنفيذية تقيمه باستخدام اللوادر "بقوا يقلعوا النخل عشان يعملوا فاصل بين البيوت والنار" كانت هذه فكرة محافظ الوادي الجديد اللواء محمد الزملوط، وفق ما يروي "ياسين"، حذا حذوه الأهالي، كل من يملك لودر أحضرها للعون، قرابة 6 جرافات أخذت تقتلع النخيل القريب من المنازل.
على بعد أمتار، وقف "فؤاد عبد الرحمن" يشاهد اقتلاع النخيل وهو يشتعل غضبا، يؤكد صاحب الـ64 سنة أن المنازل المطلة على الزراعات كان مكانها نخل "بلد الراشدة القديمة كانت فوق وبعيدة عن النخل". يتعجب من حصول أصحابها على تصريح بناء "النخل ده بقاله آلاف السنين أبا عن جد، إزاي الحكومة صرحت للناس تبني مكانه، وبقت الناس قاعدة والنخل هو اللي بيتشال".
في تلك الأثناء، كان "ياسين" ينقل أثاث ابنته من شقتها المطلة على الزراعات المشتعلة، يفصل أنابيب البوتاجاز الأربعة ويبعدها حتى لا تنفجر، بعدها اعتلى الرجل الستيني سطح المنزل، أفزعه المشهد، الحريق يكاد يقترب من المنازل، لا يملك العجوز حيلة، اندفع تجاه خزان المياه "بقيت أملى بالجردل وأرمي على النار".
حتى قرابة الثانية صباحًا، كانت الأرض اكتسبت حرارة لا يمكن السير فيها، عجز الأهالي عن مواصلة التعامل مع الحريق "مقدرناش ندخل جوه كان الوقت نفد، حتى المطافئ سحبت نفسها ومقدرتش تكمل". طلب أبناء القرية تدخل الطائرات العسكرية "قالوا مينفعش تشتغل بليل"، وفي السادسة صباحاً وصلت الطائرات وانضمت لفرق الإطفاء.
حتى الآن لا يعلم الأهالي سبب الحريق الذي امتد لأكثر من 16 ساعة، لكن بعضهم يرى أنه قد يكون بسبب إشعال أحد المزارعين النيران في بقايا جريد النخل من تنظيفه لأرضه بعد حصاد محصول البلح" بيحفروا في مكان فاضي وسط الجناين ويولعوا فيها".
محمد سيد، مزارع نخيل بالقرية، يوضح أنهم بعد حصاد محصول البلح، يبدأون في عملية تنظيف النخل عن طريق إزالة الحشائش أسفلها، وقطع الجريد الجاف، يجمعون تلك المخلفات "وبنفحتلها بؤرة في الأرض جنب الزراعات ونحطها على بعضها ونولع فيها"، قد يلجأون إلى طريقة أخرى أقل شيوعاً وهي وضع تلك المخلفات أسفل النخيل "ونحط رمل أو ذبل عليها".
أما الخسائر، وفق" عبد الرحمن" صاحب الـ60 عاما، طالت 20 منزلا ما بين احتراق الأسقف والجدران وتضرر الأثاث، بجانب نفوق حوالي 5 مواشي وعدد من رؤوس الغنم، غير عدد آخر ضل يوم الحريق.
كذلك احترقت عدد من الشون (مكان رعاية المواشي) - تزيد عن 50 شونة - لكون جدرانها مبنية إما بالطوب الأبيض أو اللبن وأسقفها من جريد النخيل، كما أنها مطلة على مساحات النخيل. ويذكر "عبد الرحمن" أن ذات الشون احترقت العام الماضي في شهر رمضان ضمن حرائق النخيل المعتادة، بعد ذلك جددها أصحابها "بس اتحرقت تاني، ملحقوش يقفوا على رجليهم".
منذ الكارثة يعيش " أحمد فتحي" وأسرته مأساة، بعدما انتقلوا إلى دار المناسبات بالقرية " المضيفة" بعدما طالت النيران منزله المبني بالطوب اللبن وتعرض لتهدم جزئي في الأسقف والجدران، يقضي الأب أيامه مهدداً بالطرد من" المضيفة" في أي وقت في حالة حدوث حالة وفاة بالقرية واضطرار الأهالي لاستخدامها.
لن ينسى الرجل مشاهد الهلع التي عاشها في اليوم المنكوب، وقتما اقتحمت النيران منزله في العاشرة من مساء ذاك اليوم "اترعبنا من المنظر وجريت بالأطفال وبزوجتي بعيد عشان أنقذهم". بعدها أخرج محتويات المنزل بمساعدة جيرانه، حصل على وعد من المحافظ بتوفير مسكن له "ولحد النهاردة ثالث يوم محدش سأل فينا، وبنام أنا وزوجتي على الأرض في دار المناسبات".
عايش سكان الراشدة مشاهد مرعبة، كان الخوف ينهش في القلوب "ليلة صعبة متتوصفش، إحنا شوفنا الجحيم بعنينا" يقولها "ياسين" بحسرة، يطالب "نجيب" بعمل وحدات إطفاء في المنطقة بعد تأخر وصول قوات الحماية المدنية، بحسب قوله "عشان اللي حصل ما يتكررش، أنا خفت وبكيت من شدة النار وشفت الدموع في عيون كل الناس".
فيديو قد يعجبك: