بالصور- مهرجان للمسنين.. "الخروج من القمقم" يبدأ بعد الستين
كتبت- دعاء الفولي وشروق غنيم:
تصوير- شروق غنيم:
داخل المنزل يقضون ما تبقى من حياتهم، ينزوي بعضهم بإرادته، آخر يطرده المحيطون، يضعونه في زاوية بمفرده. بعد الخروج على المعاش، تُمسى الحياة بطيئة، لا فكاك من الوحدة، يتفرق الأبناء والأحفاد كلٌ في طريقه، ويبقى المُسن يواجه الموت.
مطلع أكتوبر من كل عام، وبينما تحتفل الأمم المتحدة بيوم المُسن، تحاول ماري يونان تدشين فكرة مختلفة؛ تدفع بها عن كبار السن الحزن والوحدة. داخل المعهد الأكليركي للأقباط الكاثوليك بالمعادي، نظمت صاحبة الثمانية وخمسين عاما، أول أمس، مهرجان "خليك فرحان" بمشاركة 13 كنيسة في محيط القاهرة، جمع الحدث كبار السن؛ فتح لهم باب الحديث، اللعب، الرقص وحتى التمثيل والغناء، عادوا أطفالا مرة أخرى.
دائما ما لاحظت ماري أن النشاطات الموجودة في الكنيسة تهتم بالصغار، طلاب الجامعة والأسر، فيما لم يكن للمسنين نصيبًا، كان ذلك عام 2004، بدأت تركز نشاطها عليهم فقط، بتنظيم رحلات وأنشطة مختلفة، حتى أصبحوا مجتمعًا صغيرًا.
الوحدة تؤرّق المسنين، بينما النسيان هو الكابوس الذي يطاردهم، كما لمست يونان من تعاملها معهم "ثقافة مجتمعنا بتحسسهم إن الشخص أما بيكبر مبيبقاش له دور ويتنسي، ناس كتير بتحكي لي إن محدش بيخبط على بابهم غير بتاع النور ولا الغاز". أصبح كل جمعة بمثابة لقاء أسبوعي يجمع المسنين في كل كنيسة على حِدة "وبقوا عيلة كبيرة".
منذ ثلاث سنوات فكرت يونان في كيفية تجميع المسنين من كنائس مختلفة سويًا، فجاءت فكرة مهرجان "خليك فرحان"، من خلال عدة فقرات دينية، ثقافية، رياضية وترفيهية "بنحاول نبسطهم بكل الطرق، وفي نفس الوقت تبقى حاجات خفيفة عليهم عشان المجهود".
ينقسم المهرجان لعدة محطات؛ تبدأ بأستديو التصوير، وتمر على المعرض السنوي، وفقرة الأسئلة الثقافية التي تنتهي بجوائز للفائزين، فيما يشمل المحطة الروحية التي يترنم فيها الحضور مع أحد القساوسة، ومحطة المرح، وأخرى لعرض مواهب الحضور.
يدّب الحماس داخل نفس "فيفي" قبل تنظيم المهرجان، لمدة شهرين تنهمك السيدة الستينية في إعداده، تسمع من المسنين في اجتماعات أسبوعية داخل الكنيسة إلى احتياجاتهم، ما الذي يُرمم علاقتهم مع الحياة والزمن "بيبقوا عاوزين يحسوا إن ليهم دور وفي ناس لسة بتحبهم وباقية عليهم"، لذلك وّلت اهتمامها إلى تنظيم أنشطة تكشف مواهبهم.
تبحث معهم عن هواية كانوا يمارسونها، سواء طبخ أو مشغولات يدوية، فأصبح هناك معرضًا يضم أعمال من صنيعهم "أو حتى بيجيبوا اللبس اللي مش محتاجينه وبيتعرض للبيع في المهرجان"، كما يوجد مسابقة مواهب "اللي بيعرف يكتب شعر، اللي بيرنّم أو حتى للي بتعرف تزغرد" تضحك فيفي لكنها تعرف أن ذلك يترك أثرًا حسنًا في نفوس المشاركين "بيحس إنه عنده حاجة يقدمها وفي ناس بتشجعه".
في المعرض أخذت أميرة عياد مكانها، لأول مرة تشارك بالمهرجان، عشرة تكونت مع المسنين من خلال مساعدتها لهم في خدمة كنيسة المطرية "ناس كانت بتحكي لي إنها بتسيب باب الشقة مفتوح عشان خايفة تموت من غير ما حد يعرف عنهم حاجة". لكن الاحتياج ذاته اجتاح نفس السيدة الأربعينية بعد وفاة زوجها من فترة "بقوا هما اللي يخففوا عني، وهما اللي شجعوني آجي النهاردة معاهم في المهرجان عشان نتبسط سوا، المحبة إحساس يساوي كتير".
خمس سنوات جمعت كاميليا شاهين بنشاط "فرح وعطاء" لمساعدة المسنين داخل الكنيسة. عاشت الأم الخمسينية حالة الوحدة كالآخرين، لذا ما إن أتتها فرصة لتساعد لم تتأخر، اندمجت في مجتمع كبار السن، باتت تجمع قطع الملابس والأقمشة الجيدة لبيعها في معرض المهرجان السنوي، أيقنت أن ثمة مجتمع يمكنها الانغماس فيه أخيرًا.
لا يتوقف دور كاميليا على الشق المادي فقط "بقينا بنكلم بعض، ونزور بعض، والأصغر سنا ممكن يروح يطبخ للأكبر منه وهكذا"، قابلت أشخاصا في الأربعينيات "بس لأنهم عايشين لوحدهم فكأنهم كبروا فوق عمرهم مرتين"، خفف النشاط عبء الوحدة عن قلب الأم "كنت في الأول بشتكي إن بناتي بعيد عني ومشغولين دلوقتي بقيت انا كمان عندي حاجات بعملها".
قاعة صغيرة أشبه بفصل، جلست فيها خمس سيدات متطوعات، يستمعن بحبٍ بالغ للدالفين، يُسجلن أسمائهم في ورقة، كلٌ حسب موهبته، فذلك يُغني، آخر يُرنّم، وثالثة تصنع أعمالًا فنية، كبار لم تمنعهم السن عن تقديم ما لديهم في ما عُرف بـ"مسابقة للمواهب".
آذان لجنة تحكيم قاعة المواهب كانت صاغية، صوت عذب تنطق به كاملة فؤاد "يا سلام على العدرا، راويحها عطرة". لا تعرف صاحبة الـ62 عامًا القراءة ولا الكتابة، لكن قلبها يحفظ الترانيم، تمسك ورقة دونت عليها الكلمات تمرر عينها لكنها لا تعرف المكتوب تحديدًا "عارفة إن بداية الترنيمة كذا فببقى فاهمة إن دي أول كلمة مكتوبة وهكذا".
لأول مرة تشارك كاملة بمسابقة المواهب، لا تهتم بالفوز "المهم إننا بنتجمع سوا ونتبسط"، لا تملك كاملة مَلَكة أخرى غير الترنيم، لكنها تكفيها، تطرد عنها الوحشة والوحدة في المنزل "كل ما البال يكون رايق، أو لما أحس إن البيت كئيب تلاقيني قاعدة برنم مع نفسي فاتبسط".
على مقعد خشبي جلست ميرفت عبده، بدا عليه القلق وعلت الابتسامة وجهها "هغني حاجة قديمة"، قالتها ثم انطلق صوتها، فيما كان زوجها مجدي حنّا يصورها بهاتفه، وما أن انتهت حتى طبع على خدها قُبلة قائلًا "دي مراتي وحبيبتي اللي مشرفاني".
لم يُرزق حنا وزوجته بأبناء، رُبما لذلك يعرف أهمية نشاط "فرح وعطاء"، عايش الرجل الخمسيني من هم أسوأ حالا؛ يحكي عن صديق له في الثمانين "اتصلت بيه مرّة فقاللي انا بقالي 3 أيام محدش سأل عني"، رقّ الزوج لحاله "فكرت إني مش عايزه يحس بالشعور السيء ده وانا لما أبقى في سنه مش هحب كمان أكون كدة".
قبل أربع سنوات، أصبح حنّا مسؤولا عن صندوق النشاط الكنسي، يُشارك ماري يونان حلمها "جمعنا حوالي 50 ألف جنيه في الصندوق وبنكمل عشان نعمل بيت المرح اللي هيضم كبار السن"، لن يشبه ذلك المكان دور الرعاية الموجودة حاليا "هيبقى فيه رفاهيات عشان نخفف عن الناس شوية".
لم تكن ميرفت زوجة حنّا فقط من قدمت موهبتها، إذ أحضرت هدى لطيف أيضا عمل فني مصنوع منزليًا، احتفاءً بمهرجان "خليك فرحان".
ورق مقوى لصقت السيدة فوقه قطع سجاد أخضر قديمة، ثم رصّت تماثيل صغيرة "كانت عندي في البيت ومش بعمل بيها حاجة"، ليخرج شكلًا مختلفًا في النهاية "انا باستنى المهرجان كل سنة عشان أعمل حاجة مختلفة أخرج بيها عن النمط بتاع حياتي"، تعيش الجدّة حاليا بمفردها، تُثمن المهرجان بشكل كبير "بنتجمع ونخرج همومنا، على الأقل يوم بيخلص من غير ملل".
من المطرية، الشرابية، مصر الجديدة، المعادي، الفجالة جاء المُسنون، بعضهم اتخذها فرصة ليقابل رفاقه القُدامى، بينما لم يخلُ المعهد من شباب الكشّافة الذين ينسقون اليوم.
أمام محطة التصوير، تأبطت إكرام فايق ذراع لطيف عيّاد، معًا تقمصّا دور العريس والعروس، يُغني لهم المحيطون، ترتفع الزغاريد، تتشبث إكرام بفستان زفاف، تضعه أمامه كأنها ترتديه، بينما يضع عيّاد "طربوش" فوق رأسه، يسيران بتؤدة إلى الملعب المغطى بالون الأخضر، يلتقطان الصور وتتعالى أصوات الضحك، فيما يردد العريس المُسن بمرح "عقبال عندكوا جميعًا".
يعيش عيّاد صاحب التسعة وستين عامًا رفقة زوجته، يعمل ابنهما كطبيب جراحة في الخارج، بينما لا يجد الأب والأم تسلية سوى الأيام التي يذهبان فيها للقاء أقرانهم في الكنيسة "اجتماعتنا مش بس روحية لأ ساعات بتبقى ترفيهية أو ثقافية.. بنحاول نخرج من الجو اليومي"، يقول عيّاد.
كان عيّاد قبل خروجه على المعاش، يعمل محاميًا ومُحاضرًا في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، باتت الحياة رتيبة بعد توقف الوظيفة، ينتظر عيّاد أيام الآحاد ليرى أصدقائه "بنبقى عاملين زي لمة العيلة أول يوم رمضان"، فيما يُحب الرحلات التي يذهبون إليها سويًا "بنطلع مصيف سوى وبنرجع عيال تاني".
كان اليوم يسير بنظام مُحكم، لا يقطعه إلا اللهو بين الحضور، تتعالى أصوات المرح بين القساوسة والمُسنين، مع بداية الحدث تم توزيع الموجودين على المحطات المختلفة "وكل نص ساعة بنبدل أماكنهم" حسبما تقول ماري، فيما تراصّوا في صفوف طويلة مع نهاية اليوم لمشاهدة مسرحية قصيرة "بتتكلم عن الحما وإزاي نحاول نحل المشاكل بينها وبين مرات الابن".
قبل أكثر من 14 عامًا تكوّن حلم داخل يونان تجاه مسنين مصر، أن تفتتح "بيت الفرح" ويكون بديلًا عن دور المسنين "لأن مفيهاش أنشطة، مجرد أكل وشرب ونوم بس ومرتبطة في دماغ الكبار إنهم كدة اترموا، كأنها محطة للموت".
أما بيت الفرح، فإن الحياة ستملؤه، تفاصيل أكثر حيوية تتمنى يونان تواجدها، بدأت في تنفيذ حلمها باختيار أرض للبناء "في مكان مش بعيد عشان ميحسوش إنهم معزولين عن الناس وعشان زيارات أهلهم"، فيما الإقامة به غير إجبارية "لو حد حابب ييجي يوم فسحة ويمشي، أو لو عاوز يقعد وقت زي ما يحب".
رغم تعب اليوم الطويل، تشعر السيدة فيفي بالفخر لما وصل له النشاط "لما بدأنا انا وماري من 4 سنين كنا أربع أنفار مسنين بنتقابل كل أسبوع، دلوقتي بقينا أكتر من 100 واحد في كنيسة الفجالة بس"، تؤمن الأم أن مجتمعهم قادر على التغيير "بقينا نجيب أطباء يتكلموا عن الصحة والتغذية وناس في مجالات تانية"، ما عادت الوحدة تأكل أيام فيفي وماري كما كانت من قبل "فيه حاجة نصحى عشانها وننزل من بيوتنا والحاجة دي بتفرق في حياة ناس تانية".
فيديو قد يعجبك: