30 عاما على "نوبل".. كيف احتفت الصحافة المصرية بفوز نجيب محفوظ؟
كتب-محمد زكريا ودعاء الفولي:
لم تكن مناسبة عادية، الجميع يتحدث عن الأديب الذي كسر القاعدة، تفاصيل لا تنتهي عن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب، كيف أصبح بين ليلة وضحاها العربي الأول الذي يحصل على الوسام السويدي الرفيع. 30 عاما مرت على الثالث عشر من أكتوبر 1988، حين تم تتويج الكاتب الراحل، فيما لم تترك الصحافة المصرية وقتها شيئا يخص الجائزة إلا وكتبت عنه، مصراوي تنقّل بين أربع صحف لرصد كيفية تناولها الحدث.
في حوالي الواحدة بعد ظهر الخميس، غادر نجيب محفوظ مبنى الأهرام، والذي اعتاد أن يمضي في مكتبه فيه الخميس من كل أسبوع، لتعمّ الفرحة صالة تحرير الجريدة بمجرد إعلان وكالات الأنباء العالمية أول سطورها السريعة عن فوز محفوظ بالجائزة، وتُخبر الأهرام الكاتب الكبير بالخبر في حوالي الساعة الثانية وعشر دقائق ظهرًا، لكن محفوظ لم يكن يعلم أنه مرشح فظن أن الخبر غير حقيقي وأن أحدًا يُداعبه، حسبما جاء بصدر صحيفة الأهرام، صبيحة فوز محفوظ بالجائزة، في 13 أكتوبر من عام 1988.
في المنزل كان محفوظ نائمًا، عندما ردت قرينته على التليفون، لتستقبل خبر فوزه بالجائزة "لم تسعها الفرحة بعد لحظة المفاجأة"، ما تزال العهدة على الأهرام التي تضيف، "أيقظت الزوجة الأديب الكبير الذي غلبته الدهشة.. وقال مكررًا أكثر من مرة: من الذي رشحني؟".
لكن جريدة الأهرام، نقلت ما صدر عن الأكاديمية السويدية، والذي جاء في حيثيتها: "أعمال نجيب محفوظ تُشكل فنًا عربيًا في القصة والرواية يخاطب البشرية كلها.. كما أن إنتاج محفوظ الأدبي أدى إلى تطوير اللغة الأدبية في الدوائر الثقافية الناطقة بالعربية".
شغل إنجاز محفوظ المساحة الأكبر من إصدار يوم 14 أكتوبر، لتنشر الأهرام صورة لرسالة مكتوبة بخط يده وموقعة باسمه، وجاء نصها: "كيف أتلقى تهنئة الأهرام والأهرام أحق مني بالتهنئة.. بفضلك بدأت حياة الذيوع والانتشار بين الناس وبجاهك بلغت درجات من التقدم والسعادة ما كنت أحلم به.. وقبل ذلك كله قضي حظي السعيد بأن تكون أول قراءاتي للرواية هي روايتي المترجمة.. تهنينا للأهرام ورجالك الأقدار الكبار".
ما تزال التغطية عند الأهرام، التي نشرت في صفحتها الثانية من نفس العدد، خبرًا يُفيد بطلب تلفزيونات أوروبا من التلفزيون المصري عقب إعلان فوز محفوظ بالجائزة إعداد مادة تسجيلية مصورة عن الكاتب المصري، تحكي جوانب حياته كأول عربي ينال الجائزة العالمية، و"أمضت نوال سري- إعلامية- طوال نهار أمس في تجميع تلك المادة.. وقد تم إرسالها عن طريق القمر الصناعي".
تحت عنوان: "العالم يسأل الأهرام عن عنوان نجيب محفوظ"، أخبرت الجريدة في الصفحة الثالثة قراءها بوصولها عديد المكالمات التليفونية من جميع أنحاء العالم تطلب صور الأديب، عنوانه، تليفوناته ومعلومات عنه.
فيما حضر السفير السويدي بنفسه إلى منزل محفوظ، قدم له التهنئة، وأخبره بموعد استلام الجائزة في الحادي عشر من ديسمبر، ليُعقب الأديب كما نقلت الأهرام في صفحتها الثالثة: "إن الحادي عشر من ديسمبر هو يوم مولدي"، فيأتيه رد لارس أولوف برلميوث: "يمكنك إذن أن تحتفل بيوم مولدك والجائزة معًا في ستوكهولم"، لكن صاحب نوبل لم يتمكن من السفر لظروف صحية فاستلمت ابنته الجائزة عنه.
رغم ذيع صيت محفوظ، ونقل الجرائد عنه قبل أن يَحصد نوبل، زاد فوزه من نشر الصحف كل ما يخص الأديب، لتكتب الأهرام في الصفحة الخامسة عن محفوظ الأب والزوج "عن رأيه في الزواج يقول نجيب: أنا زمان كنت خايف من حكاية الزواج، لكن حقيقي الزواج بيهيأ الاستقرار للكاتب والفنان"، وتقول زوجته عنه إنه كان طيبًا، أيضًا كان "بيحب أولاده وبيدلعهم.. لا يتدخل في حياة ابنتيه أم كلثوم وفاطمة، إلا في حدود المشورة والاقتراح.. إنه حسب تعبيره يحب النظام البرلماني الحر".
في 15 أكتوبر، قل ما هو مكتوب عن محفوظ، لكن حظي عدد الأهرام ببعض التفاصيل التي ترتبط بالأديب، منها رسالة من بحيرة "إدكو" نُشرت في الصفحة الثانية: "إذاعة وتلفزيون"، تحت درج: "ميكروفون"، بعنوان: "نجيب محفوظ والمشاهدون"، يُطالب فيها محسن الصقيلي "المسؤولين عن إنتاج المسلسلات بالاهتمام بموضوعاتها لأنها تعتبر المنفذ الرئيسي لتثقيف العديد من المشاهدين الذين لا يعرفون القراءة"، ويقترح "الاهتمام بالمسلسلات التاريخية والمأخوذة عما يكتبه كبار الأدباء أمثال نجيب محفوظ".
وفي الصفحة الخامسة، قدمت الأهرام ما يشبه معايشة "أول يوم مع نجيب محفوظ"، الذي تجول في حي الحسين، قبل أن يجلس على مقهى الفيشاوي، يشرب الشاي ويعتذر عن "الشيشة"، بينما يتلقى عشرات التهاني، كان من بينها على لسان سائحين أمريكان تعرفوا عليه داخل المقهى.
في الرابع عشر من أكتوبر وفي جريدة الجمهورية تم تخصيص الجزء الأسفل من الصفحة، جاء فيها عدة برقيات تهنئة من فاروق حسني، وزير الثقافة وقتها، لمحفوظ، كتب فيها: "مبروك عليكم وشكرا لكم أن كرمتم الأدب المصري والثقافة العربية بقلمكم الرفيع"، فيما أرسل حسني برقية أخرى، لمحمد حسني مبارك، رئيس الجمهورية حينها.
لم تستغرق الجمهورية وقتا طويلًا لُتجري حوارًا مع نجيب، ففي اليوم التالي وجه الصحفي له أسئلة عديدة، أبرزها حين سأله عن مقهى علي بابا، بالتحرير، والذي اعتاد الكاتب الجلوس فيه يوميا "هل هتقعد على قهوة علي بابا تاني؟"، ليأتي رد محفوظ :"هي اللي جابت الجايزة"، فيما لم يغفل الكاتب الراحل الحديث عمن يستحق نوبل من رأيه "يوسف إدريس، وثروت أباظ، وفتحي غانم وإدوارد صراف".
"العالم يتحدث عن نجيب محفوظ"، كان عنوان الصفحة الأولى لجريدة الجمهورية في اليوم التالي. فردت الجريدة مساحة كبيرة لبرقيات التهنئة التي وردت باسم محفوظ "الرئيس التونسي زين العادبن بن علي يهنئ الرئيس مبارك.. دانتي كابوتو رئيس الأمم المتحدة قدم التهنئة لمحفوظ قائلًا إن فوزه هو فوز للأدب العربي"، بينما تحدثت الصحيفة عن عقد مهرجان داخل مصر لتكريم الأديب الراحل، وأوردت تصريحًا لوزير الثقافة حيث قال إن الوزارة بصدد شراء حقوق طبع أعمال محفوظ، ليتم إصدارها في طبعات شعبية وعمل قصص قصيرة منفصلة، تُباع الواحدة منها بخمسة إلى عشرة قروش.
التهنئة لم تأتِ من الجهات الرسمية فقط؛ نشرت الجمهورية ردود فعل الكُتاب والمشاهير عمّا حدث، إذ قال الموسيقار محمد عبد الوهاب إنه سعيد مرتين "مرة لأن الأديب يستحقها ومرة لأنه من حي باب الشعرية الذي انتمي له"، بينما لم تغفل الجريدة فرحة المواطنين بالجائزة.
في نصف صفحة كتب الصحفي عاصم بسيوني عن سعادة سكان الجمالية وخان الخليلي بفوز محفوظ، تجوّل المحرر بين حارة السكرية، قصر الشوق وغيرهم من الأماكن التي أوردها في رواياته.. "كنت أقدم له القهوة دايما وكان يشربها سادة"، قالها أحد العاملين بمقهى شهير في الحسين، فيما تحدث التقرير عن المواطن عريان حنين، الذي يسكن في السكرية ولا يعرف القراءة والكتابة "وكل اللي أعرفه عنه من الأفلام اللي شوفتهاله"، لكن رغم ذلك حمل حنين للأديب حُبًا كبيرًا "لما قالولي إنه كسب مصدقتش، كان نفسي أشوفه وأبوسه وأقوله إنه راجل مجدع".
على مدار أسبوع من تاريخ استلام الجائزة، غطت الجمهورية الحدث بطرق مختلفة، من الحوارات الصحفية، الفنية، التقارير وحتى الأخبار الخفيفة، حيث كتب أحدهم في مربع صغير في الصفحة التاسعة من الجريدة عن إعلان أحد الناشرين السويديين نيته لرفع قضية ضد الهيئة العامة للنشر في السويد، بسبب رفضها طلب مُقدم عام 1987 بتمويل مشروع لترجمة بعض أعمال محفوظ، فيما حصدها الكاتب في العام التالي.
مجلة روزا اليوسف كان لها تغطية مختلفة، لكونها تصدر بشكل أسبوعي. بعد إعلان الجائزة بثلاث ساعات كان محرر الصحيفة داخل منزل محفوظ يرصد الوضع.
كان منزل الأديب الراحل أرضا مُحرمة، لا يعرفها حتى أصحابه الذين يقابلهم بشكل يومي "منزله منقسم لجزأين؛ جزء يؤدي لحجرات النوم، وآخر يضم السفرة والصالون ومكتب الأستاذ.. مكتبه يضم الكتب بطريقة مكدسة كمكاتب الحكومة، عُلقت فيه صورة له في شبابه، وأخرى لشهادة تقدير منحه إياها الرئيس عبدالناصر.. بيت الأستاذ كان به بعض القطط والكلاب كما أن جرس الهاتف لم يتوقف عن الرنين لكنها زحمة مُحببة، قال عنها: زحمة العمر وانا سعيد بها".
الوجود بين الأديب الفائز وأصدقاءه كان من نصيب الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، إذ ذهب بصفته محررًا في روزا اليوسف ليحضر أو لقاء بين محفوظ و"الحرافيش" بعد ساعات من الفوز، داخل كازينو قصر النيل.
لأعوام طويلة قابل محفوظ أصدقائه في ذات المكان، يتحدثون في كل أمور الحياة، ولأنه كان منضبطًا، فلم يفوت ميعاده معهم. متأنقًا ذهب الفائز للاجتماع، استقبله الموجودون بترحيب ضخم حتى العاملين في المكان. ضمّت الجلسة أسماءً لامعة؛ منهم المخرج صلاح أبو سيف، الممثل أحمد مظهر، والكاتب جمال الغيطاني.
كان الحماس يغطي على الأجواء في الكازينو، لكن تهافت الصحفيين على ذات المكان، جعل أصدقاء الكاتب الراحل يتأففون، حيث مثّل لهم الكازينو مسرحًا بعيدًا عن أعين الناس.
في المقابل، لم تحظ جريدة الأخبار بتغطية ضخمة كغيرها من الصحف. في الصفحة الثالثة، ليوم 14 أكتوبر، حكت الأخبار نقلًا عن زوجة محفوظ تفاصيل إيقاظها له ورده عليها: "كفاية أحلام". وحكت عن مقابلته السفير السويدي بـ"البيجامة". وفي الصفحة السابعة، حكت عن التقائه بأصدقائه يوم الخميس، جلسة "الحرافيش"، التي لم يُنسيه فوزه بالجائزة من حضورها.
فيديو قد يعجبك: