مصراوي يُحاور "صديق الحروف".. 70 عاما من مقاومة الاحتلال وتيترات الأفلام
حوار- نسمة فرج ودعاء الفولي:
تصوير- روجيه أنيس:
كانت أركان الفصل تلمع من فرط النظافة. كُل شيء مُرتب بعناية. التلاميذ في أماكنهم. السبورة جفّ طلائها استعدادا للعام الدراسي الجديد. طفل عُمره ستة أعوام تحرك بخفة في اتجاهها. صعد على "الدكة" المجاورة لها. أمسك الطباشير وكتب "الملك فاروق ملك مصر والسودان". ما أن دخل المُدرس حتى سأل باهتمام عن صاحب الجملة، ارتعدت فرائص الصغير مسعد الخضيري، لكن خوفه اختفى حين طلب منه المُدرس كتابتها ثانية، بل وتلقين زملاءه كيفية خط الكلمات بذلك الشكل البديع.
في بورسعيد، طنطا، والقاهرة كان للخضيري أبناء. ليسوا من لحم ودم؛ بل خطوط صنعها على عينه. رسمها في لافتات، لوحات، معارض، فوق الحيطان، وعلى أوراق صغيرة. كانت أرض مصر ومازالت مسرحا لأعماله، يزرعها بالخط العربي الذي أحبّه منذ كان في الرابعة من عمره، والآن وقد جاوز السبعين، وصار نقيبا للخطاطين، مازال يتعرف على الحروف كل مرة حين يكتبها. له في رحلة الخط العربي حكايات، يسرد لـ"مصراوي" بعضا منها.
داخل معرضه الكائن بحي الجمالية جلس الخضيري. تحيطه اللوحات؛ فتلك رسمها في شهر، وهذه في أكثر. واحدة قديمة وأخرى حديثة. صور لجرائد تتحدث عنه، تنشر له صورا إذ هو طفل يرسم في بورسعيد. تُزين الأقلام ورشته التي يقبع فيها، لا شيء يعلو فوق الألوان وألواح الورق الضخمة، إلا من سرير بسيط، حتى إذا ما غلبه النوم، لا يبتعد عن محراب الكتابة.
في بورسعيد بدأ كل شيء. عام 1945 كان طفلا ذو3 سنوات يقوم بعمل خلطة من العسل والزهرة الزرقاء التي كان الأهالي يدهنون بها النوافذ، خوفا من غارات تصيب مدينتهم بيد الاستعمار الإنجليزي، لم يكن نقيب الخطاطين يلهو مع أقرانه، بل يُزجي وقته في "مضايقة الاستعمار قد ما نقدر"، مستغلا حبه للكتابة.
بين شوارع مختلفة كان يتنقل الطفل المُشاغب "مفيش حيطة إلا وكتبنا عليها ضد الاحتلال"، رغم أن سنه لم تجاوز الخمس سنوات "بس كنت بقلد اللي أكبر مني في الخط"، لم يعرف الصغير ما أصابه "كنت بلاقي إيدي بتكتب لوحدها.. من غير ما اعرف نوع الخط"، يساعده في ذلك أخيه الأكبر ببضع سنوات، إلا أن الأمور تغيرت حين وقع أمامه كتابا للخط العربي.
كمن وجد كنزا كان الخضيري "بقيت أقلب في الكتاب مش فاهم حاجة منه.. كان عمري ست سنين". كان الكتاب لعالم خط تركي "مش فاكر منه غير إنه مليان خط ثُلث وإني قعدت أنقل الخط دة كله وأتدرب على حروفه". لم يعلم الطفل الموهوب أنه يرسم أصعب أنوع الخطوط، لذا حين دخل المدرسة في نفس العام، أبهر المُعلمين "الناظر خلاني أعلم زملائي كلهم.. بقيت أكتب على أرض الشارع، الحيطان، السبورة.. بقت الدنيا كلها لوحة كبيرة".
علاقة الخضيري بالخط قوامها الحب "عشان كدة كنت جريء وإيدي مش بتترعش". يذكر موقفه مع أول لافتة "كتبتها وأنا في الصف الثاني الابتدائي، بطول 5 متر". كان أحد أصدقاءه في الفصل قد انبهر بما يكتب "راح قال لوالده اللي كان عنده محل دخان إني شاطر وممكن أعمل له يافطة"، سخر الأب من اقتراح ابنه، لكن مع الإلحاح استسلم لرغبته.
سُلم مرتفع مازال الخضيري يتذكره إلى الآن، أحضره له والد صديقه كي يصل إلى اللافتة "قلت لأبو صاحبي انا هكتب بقلم عادي ومش هبيّض إلا لما يعجبك". بدأ الطفل في الكتابة، نسي ما حوله، ذابت عيناه مع الخطوط "مدرتش غير بعدها بنص ساعة.. ببص حواليا لقيت بورسعيد كلها ملمومة على المحل.. بتتفرج مين العيل اللي بيكتب ده".
لم يمس الخوف قلب الخضيري، استمر فيما يفعل، احتفى به الجمع "لدرجة إن الشرطة لما لقوا زحمة جم أخدوني لفوا بيا شوية بعيد عشان الناس تمشي ورجعوني تاني أكمل كتابة"، وحين انتهى أُعجب صاحب المكان بالنتيجة، حتى أن اللافتة ظلت موجودة لمدة 50 عاما بعد ذلك اليوم.
لم يترك الخضيري الكتابة منذ ذلك الحين، لا يعرف غيرها سبيلا "أنا ذوبت في الخط وعشقته.. ومبقتش عارف أعمل حاجة غيره"، فتح ورشته ببورسعيد "اتعرفت من وانا عندي 10 سنين.. مكنتش بلاحق على الشغل".
على مدار حياته لم يعرف الخضيري طقوسا قبل الكتابة "ربنا إداني موهبة مش لازم أهيأ الجو.. الحرف لما بيتولد بيتولد لوحده"، لكنه رغم ذلك يختار دائما رسم حروفه في "الونس". يُحب الضوضاء عكس ما يُعرف عن المبدعين "أي حاجة تشتغل جنبي حتى لو تلفزيون"، يستغل اجتماع عائلته في بورسعيد سنويا ليكتب أفضل "العيال بتبقى بتجري حواليا والناس بتتكلم بس ببقى مبسوط".
منذ انصهر الخضيري في الخط، قرر ألا يمر يوما دون أن يتطور فيه، سأل من سبقوه من الخطاطين "إزاي اللي بكتبه يفضل حلو ومختلف علطول؟"، فكان تطوير أساليبه هو الإجابة الدائمة، لذا أقسم ألا يكرر نفسه، صنع 15 ألف لوحة منذ بداية مشواره، لا تُشبه واحدة الأخرى، عرف أن ما يُطفئ نجم أي موهوب هو أن يرتكن للهبة الربانية دون اجتهاد، لذلك ما إن أتم 15 عاما حتى التحق بمدرسة الخط العربي في طنطا.
"ساعتها لقيتني عارف كتير من اللي بيتقال فيها وبقيت أدرّس لزمايلي مع الأساتذة"، كانت بورسعيد حينها غارقة في آثار العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وما أن انتهت المحنة حتى عاد إليها سريعا يستكمل نشاطه بقوة، يكتب لافتات عما فعله العدوان، يُشجع الناس على المقاومة والصمود، يُدير ورشته التي يأتيها كثيرون، لا وقت لديه لشيء آخر، يضحك الخضيري إذ يقول: "الخط خلّاني محبش واحدة في سن المراهقة زي صحابي.. أنا كنت بتغزّل في الحروف".
لا يُفضل الخضيري خطا عن الآخر في الكتابة "اللي ينفع مع اللوحة بيتكتب"، لكن ذلك لا ينفي عشقه لخط "الثلث"، إذ تعلمه صغيرا، وكان يتفنن في رسم الحروف الصعبة كالحاء والعين، ومع الوقت صار العسير أيسر.
حين أنهى الخطاط التجنيد عام1965، صار لزاما أن ينتقل للقاهرة، لم يقرر ذلك بنفسه، بل قرر له الخط كالعادة؛ إذ كان مازال في الجيش حين أخبره صديق أنه سيذهب إلى مبنى التلفزيون المصري، طلب منه صاحبه أن يعطيه بعض نماذج لأعماله ليعرضها على المختصين "لما شافوها عجبتهم جدا وطلبوا منه إنه يوديني أشتغل.. وبدأت معاهم وانا لسة في الجيش".
فُتحت الأبواب للخطاط البورسعيدي "بقيت أكتب تيترات أفلام إسماعيل يس وألاقي برامج دينية بتجيلي فاكتبها"، كان يختار نوع الخط حسب الحالة التي يُعبر عنها، إذ آمن دائما أن الحروف ليست خطوطا مُفرغة، كتب تيترات كبار الشيوخ كالشعراوي، خطّ مقدمة برنامج "العلم والإيمان" للدكتور مصطفى محمود، كتب مقدمة فيلم "أخطر رجل في العالم" للراحل فؤاد المهندس، نسج القرآن الكريم كاملا للتليفزيون المصري 7 مرات لإذاعته في مناسبات متفاوتة، فيما تظل كلمة ليالي الحلمية، التي تأتي في مقدمة المسلسل، شاهدة على صنع يديه.
مع الوقت، أخذ الخضيري تحسين حال الخط العربي على كاهله "مكنش عاجبني الإهمال اللي بشوفه للنوع دة من الفنون"، يعرف أن ذلك الإهمال مازال مستمرا بل وازداد "مثلا كانت مدارس الخط زمان ببلاش.. دلوقتي بقى الفصل الواحد بـ300 جنيه"، يحكي أن هدف تلك المدارس هو تحسين الذوق العام "إن الناس تستطعم الحاجة الحلوة.. لكن لما تتعسف في شروطها يبقى إحنا بنقفل باب الجمال"، بينما يضيف أن الاهتمام بالخط العربي في نظام التعليم المصري مُنعدم، بداية من المدرسة وحتى الجامعة؛ ربما تلك الأسباب هي ما دفعته لتأسيس نقابة الخطاطين عام 2011.
حين امتلك الخضيري زمام الأمور لحد ما "اتمنيت أكرّم الخطاطين"، لذا جاءت فكرة ملتقى الخط العربي الذي يُقام منذ 3 أعوام، جامعا محترفي ذلك الفن من الدول العربية "لعل دي تكون فرصة لهم لعرض أعمالهم"، ورغم أن الملتقى تطور، إلا أن نقيب الخطاطين ينتظر منه أكثر.
على مدار مشواره الطويل، لم ينتظر ابن بورسعيد من السلطة الكثير "بحاول أعمل كل شيء بنفسي"، لا يذكر أنه طلب شيئا من مسئول قبل ذلك "إلا السادات"؛ حينها كان الخطاط مازال في الجيش "والسادات نائب الرئيس جمال عبد الناصر وسمع إني بكتب كويس وطلب أعمل له لوحة"، ذهب الخضيري إلى الرئيس الراحل لتنفيذ العمل "عزم عليا بسيجارة ساعتها.. كان بيقدر الجمال والفن".
ظلت علاقتهما جيدة حتى أصبح رئيسا "ساعتها قابلته عشان شغل تاني وطلبت منه ييجي يفتتح معرضي بنفسه"، ليضحك السادات قائلا: "يا خضيري هو فيه رئيس بيفتح معارض؟"، لكن حفاظا على الود بينهما ذهبت السيدة جيهان السادات للمعرض.
للخضيري قوانين لم يحد عنها يوما؛ تبدأ من الأشياء البسيطة وحتى المبادئ الحياتية؛ لا يشرب الشاي أو القهوة أو العصائر المُثلجة "بحس إن دة بيأثر على الصفاء الذهني"، فيما أخذ عهدا على نفسه ألا يغلق الباب في وجه من يطلب المساعدة، كما وأنه لا يعرض لوحاته أبدا للبيع أو على أحدهم ليأخذ رأيه "بخلصها براحتي وتتعرض والناس تشوفها". ما عاد يجد من يمكنه تقييم لوحاته بعد رحيل أستاذه الخطاط محمد عبد القادر، ذلك الفنان الذي وضع له صورة كبيرة في المعرض "كنت بوريه اللي بعمله وهو كمان بيوريني ونتناقش".
في جُعبة البورسعيدي يسكن الكثير من الفن، يتقوقع في مملكة لوحاته الخاصة، فيما يقول "لسة معملتش اللوحة اللي تعجبني". كل عمل بالنسبة له هو الأول. لا يضع لنفسه وقتا للانتهاء من اللوحة "هي عاملة زي الطفل.. لازم ميعاد ولادته تيجي، ممكن بعد شهر.. أسبوع.. أو أكتر"، لكنه إن بدأ فيها فلا يتراخى "ببقى عايز أنام وأصحى بسرعة عشان أرجع أكمل"، ينحت في صخر الروتين لإقامة معارض أكثر للخطاطين، يُنفق من ماله الخاص على النقابة، معتبرا أن ذلك جزء من وفائه لما يحب.
فيديو قد يعجبك: